لم تكن رجلاها تسعفانها على الوقوف بتمام الاعتدال، لم تكن تنظر في عيونه وتستجدي بسمة ولا حبا، ولا حتى كلمات تطمئنها أنه الحب الأكيد الماثل أمام عيونها بخلد القلب، بل كانت بسمة تعيش لحظات الملاك الذي يوزع ورود العطاء والأمل بلا تمايز. من داخل تلك الباب الأصلية بعبق التاريخ المجيد، تسكن بسمة مع عائلتها الصغيرة. كانت تحمل مجمل فرحة تنط قدما نحو معانقة زينة الحياة بتمام تسلق سلم السعادة، كانت بسمة مثل الفرح الذي ينمو داخل الأسرة بمشتل الرياحين الفواحة عطرا، وبرعاية حصينة عليها من الأسرة.
في الحي التقليدي بأسواره العتيقة السلطانية، لم تكن بسمة إلا رسما جماليا يؤثث محاسن حي القصبة، لم تكن إلا نغمة موسيقى سوية لوتر قيثارة رنانة تحيي العلاقات الاجتماعية بين الساكنة بكل أريحية. كانت تمضي لعبها الطفولي خلف الأسوار وهي تبحث عن سر مسك الفرح الدافق، تبحث عند حقول الياسمين المزهرة عن روح حب القلب، وقطف شهد طيبة الحياة. كل أبواب البيوت داخل أسوار القصبة كانت تفتح بلمسة منها، كانت بسمة تلقى الترحاب وطيبة كأس شاي بنعناع من بساتين واجهة منحدر وادي بوفكران.
من قبلة الشاي المنعنع، تعلمت الصمت والتعبير عن مخاض حب قلبها بالصوت الخافت. ومن روح جمالية صدفة الحياة الممطرة بالندى البارد تعرفت عن ذاتها الوجدانية. حين ارتشفت قبلة طيعة من دقات قلبها بالتتابع، تعلمت أن الحب أنثى مراهقة شقية. حينها لم تدر بسمة، ما الحدث؟ عندما تغيرت ملامحها بالاحمرار، لم تعلم أنها اليوم قد وقعت في شباك شرك حب نحو ذلك الشاب الذي يحمل اسم المصطفى الثاني المذكور في الكتب السماوية الأولى. كانت تلك الكلمات الصامتة الصادرة من العيون كافية على احتواء قلب الآخر بغزوة حب سلمية، كانت كل إيحاءات عيونها تشير أن الهرب من نظرات العيون ما هو إلا جبن يخرس اللسان عن النطق والتعبير الصريح بعلو الكلمات “أحبك، ولا حب سيكون حاضرا بعدك”.
من عيون الاسم الثاني للمصطفى القرمزية وذات البنية الغامقة، كانت تضيع بسمتها في البحث عن حبها الأكيد. كانت تلازم حب السرية وتجفف ريق لسانها دون البوح أنها عاشقة، كانت بسمة تحمل قلبا طيبا وروحا نقية صامتة، كانت لا تقدر أن توقف رعشتها الداخلية وهي تحادثه باتزان المعقولية، وبتساوي الوقوف بقرب محاسن الجسد.
لم توثق بسمة يوما حبها مع الاسم الثاني للمصطفى بالاعتراف، بل بقية وفية لعادة الصمت، وأنه سيأتي يوم تدق فيه طبول لإعلان الرسميات، وستكون تلك اللحظة المستقبلية أشد وقعا على خفقة القلب، وأرحم من صدمة ظلم البعد. لم تكن الأيام تساير بسمة على نسج منوال الأمل وحلم الدفع بالحبيب إلى التعبير عما في دواخله. ومرات عديدة لم تقدر على وزن مشاعر الاسم الثاني للمصطفى تجاهها، كانت تعيش أنفة عدم الاعتراف والدوس على لسانها بالصمت، وحتى القدر فقد كان يرسم لها متسعا من الفرار نحو رحلة المجهول، ولما قطع البحر والخروج من بين أسوار بيوت القصبة بحقيبة سفر أبدية.
كان مفصل حياتها المتغير بالمكان والزمان سفر البعد المفاجئ. تلك اللحظات كانت الأشد وقعا عند بسمة حزنا، حين تغير موقع عيشها من وسط القصبة التقليدي نحو بلاد الملائكة والجن. كانت قبل الرحيل تحلم بقبلة جبين من الاسم الثاني للمصطفى، كانت تحلم في عناق يرسي توقيع القلوب ببصمة الصمت ووعود العودة، ولما قول: “لا تنساني بصوت المثنى المؤنث والمذكر”.
عند رحيل بسمة نحو تلك البلاد البعيدة، كانت تعلم أن الغد الموغل في المستقبل يخفي مسارات جديدة لحياتها، وأن الاسم الثاني للمصطفى ممكن أن يبقى من الماضي المستملح الآتي بالذكريات التي تجيء وتمضي. كان إحساسها صادقا، حين قرأت من تاريخ الغيب أنها ستعيش صفحة جديدة لحياتها بالتغيير غير المخطط من القلب. كانت تحب حياتها داخل منزل الأسرة بالقصبة، وبالقرب من نبع الحب. كانت ترغب في أن يبقى خيالها من الغد الآتي مهاجرا نحو القصبة العتيقة، كانت تعلم من أحاسيسها الداخلية أن حبها لن تراه بالمرة. فحين تذكر بسمة حياتها الأولى مع حبها الصامت، تقول علنا: تعلمت من أول خطوة السفر أن المستقبل سوف يقلب صفحات حياتي بتمام التغيير والسرعة.
محسن الأكرمين