محسن الأكرمين.
لأول مرة أحضر صلاة جمعة بمسجد باب البرادعيين، بحق هاجرت إليه من حي الزيتون نحو قلب المدينة العتيقة لحضور مراسيم تشييع جنازة ودفن أم صديق عزيز من أبناء المدينة البررة الطيبين (رحمها الله). دخلت المسجد باكرا، وانتعش جسمي بتلك البرودة الآتية من المكان، ومن دفء عيون الشيوخ والشباب تقتبس من نورها قبس طيبوبة أبناء مكناس. بحق الله، شدني بعمق الوجدان الرباني، تلاوة القرآن الجماعية بالطريقة المغربية الأصيلة، والتي افتقدنا التمتع والاستمتاع إليها في ظل طوائف من المادحين الواقفين بالدف والتلحين !! لا علينا، فالتغيرات السريعة باتت تُربكنا جميعا، وتدفع بنا إلى امتلاك العقل الجمعي (عقلية القطيع) الذي يُقوض الاختلاف، ويبعث نحو تطويع الذات، والانسياب ضمن (النسقية التدفقية) الجديدة.
في المسجد:
قبل الصلاة كانت عيوني تتيه بين معالم جوانب المسجد تسجيلا لآثار ألم الموت المنبعث من كل نقطة بالجامع العتيق. كنت أتخيل وضعيات الردم فوق رؤوس الراكعين والساجدين. في ركعة من ركعات تحية المسجد كانت تتراءى لي الأبدان البيضاء تلتحف ثوب الكفن وهي تصطف خلف الإمام، كان لون الدم حاضرا عند لمس أنفي أرض سجاد المسجد، كان الدم يسكن عيوني، ويلون سجاد السجود، وتصدر منه روائح زكية بفرحة لقاء الرب من داخل مسجد الصلاة الطاهر. من كثرة الدمع، كنت أسمع الأنين يأتي إلى مسامعي من كل رافعة مقوسة بالمسجد، أنين موت جماعي. حينها ابتل جبيني علوا بالعرق، شعرت أن الموت لازال يسكن المسجد، ولا زال يداوم على إحصاء عدد الشهداء.
مشاهد:
شاهدت في الزاوية الوسطى للمحراب نُور أرواح شهداء لا زالت حاضرة بالجامع وتؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، وتزيد قيام الليل والغسق. تذكرت يوم تشييع إحدى وأربعين نعشا نحو ثرى مقبرتي الشهداء والشيخ الكامل والكل في بكاء جماعي. تذكرت إيقاعات الحشود وهم يرددون علنا التكبير على الواحد القهار. تذكرت نواح اليتامى والأرامل. تذكرت كل بكاء ساكنة حي تيزمي وجناح الأمان وسبع لويات ودرب برغوتي وساكنة براكة… وكل بكاء أزقة المدينة العتيقة وأحيائها. إنها شهقة لاصقة بحلقي وحُزن الموت الذي أعاد ذكرى مأساة مسجد خناتة بنت بكار.
صلاة جمعة:
لم تنته ركعات صلاة الجمعة، حتى كانت عيوني تسيل دمعا متلاحق المورد، حتى أن صوت الشهيق الذي أصدرته مرات عديدة شد إليه مسامع وانتباه من يجاور صلاتي. بكائي لم يكن حينها خوفا من الموت، لم يكن فزعا من حالة تكرار حادثة الردم فوق رؤوس المصلين، فإيماني بمطلق القضاء والقدر يزكيني حبا في الله. بل كانت دموعي تشمل كل هذا وذاك، تشمل الحاضر والماضي، تشمل مناحي حياتي الذاتية والمآسي الموضعية القاتلة، تشمل حياة أبناء الشعب مكفوفي الأمل في حياة الكرامة والعدالة الاجتماعية.
انتهت الصلاة:
سلٌم الإمام يمينا معلنا انتهاء صلاة جمعة، ولم يكمل سلامه على أصحاب اليسار، لكن عيوني استسلمت مرة ثانية، عند علو صوت المأموم الصلاة على الجنازة (صلاة امرأة من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم). الألم الآتي من الماضي القريب والحاضر بحضور الموت للصلاة، جعلني أخفض رأسي، وأجعل دموعي تسكن زرابي أرض شهداء جمعة. هو أنا، والذي بتت لا أطيق الألم ولا أطيق افتحاص النظر في أطلال بقايا الحزن وأمكنة موت الصدفة.
عند الباب:
لم أترك مسجد خناتة حتى مسح شيخ عيوني قائلا: (الرجوع لله يا أولدي…) من وسط أزقة المدينة العتيقة سلكنا باب البرداعيين (الذي طال أمد ترميمه) نحو المدافن الكبرى التي تحمل تاريخ مكناس بعينه. تزايد تفكيري كثافة بمنتهى إنتاجه الفيضي التراكمي، لكنه رسا اليوم على شط مرفأ الألم والموت، وعمليات الدفن والدعاء.
خطبة بلا هجرة إلى الزمن الحاضر:
في صوت الإمام الخافض واللين، كنا نسمعه وهو يحكي لنا فضائل الهجرة النبوية، كنا نرتشف منه الحكاية كما كانت جداتنا والمذياع يكررها على مسامعنا، حتى بتنا نحفظ حكاية سراقة بن مالك الذي انغرست أرجل حصانه أرضا عندما اقترب من النبي (ص) وصاحبه.
بقي الخطيب في ذكر فضائل الهجرة، ونسي بالتمام ربط الهجرة بما تُقايِسُه المدينة العتيقة بمكناس من إجحاف وإهمال. نسي تذكير الناس بالهجرة نحو الجدية في العمل والأداء، وهجرة المسؤولين نحو تحقيق رغبات الساكنة في العيش الكريم، والرفاه للجميع.
نسي الإمام قبل أن يُنهي خطبته الدعوة إلى هجرة جديدة شعارها، الجدية وربط المسؤولية بالمحاسبة (الكَاوْيَة). نسي الدعوة نحو هجرة أهل الحل والعقد في ربط المسؤولية بالحكامة، واعتبار هذه الهجرة (هجرة الصرامة). تناسى الإمام دعوة الجميع إلى الهجرة حديثة نحو تغليب مصالح الوطن العليا والترفع عن المزايدات الضيقة بمكناس وسياسة (البلوكاج والسابوتاج )!! أهمل الإمام الدعوة إلى هجرة التمكين والتنمية المحلية، والبحث عن أفق أرحب يسعنا جميعا بالكرامة. نسي الإمام الخطيب الدعوة علانية إلى هجرة نحو الحكامة التي نص عليها الدستور، وتطبيق القانون وتحقيق الحقوق والعدل. نسي الهجرة نحو عنوان الصرامة وتحقيق الانتصارات على التمايزات الطبقية.
لحظة في ظل حركات التناسي التي أسقطت الإمام في الماضي بلا عبور نحو الحاضر، لعنت الشيطان من لغو الكلام، ومن تلك التساؤلات الخانقة بالتلاحق، لعنته شمالا، لكني أحسست أنه ألصق أسباب سقوط الصومعة إلى (حجام )باب التيزيمي الكبرى. أحسست أنه لا زال يتبع خطواتي بالترادف، ويشوش مسامع أدعية التأبين النهائية.
عن موقع: فاس نيوز