في قلب مدينة فاس القديمة، توجد متاهة حقيقية من الشوارع المرصوفة بالحجر والمنازل التقليدية، حيث تنتصب جواهر معمارية ذات جمال مذهل.
إنها المدارس القرآنية، هذه المدارس القرآنية العتيقة التي لعبت دورًا مركزيًا في نشر المعرفة على مر القرون. مدينة فاس المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، هي موطن لإحدى عشرة من هذه المؤسسات التعليمية، وهي شهود صامتة على ماض فكري وثقافي غني.
منذ القرن الثالث عشر، أصبحت فاس مركزًا للعلم، حيث اجتذبت علماء ومفكرين مشهورين مثل ابن خلدون والبابا سيلفستر الثاني والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون.
ساعدت هذه العقول اللامعة في جعل المدينة بوتقة تنصهر فيها الأفكار والنظريات، حيث يتم تدريس التخصصات الأكثر تنوعًا ومناقشتها بشغف.
ومن أشهر المدارس البوعنانية، والسبعين، والمسبحية، والصهريج، والمحمدية، والصفارين، والتي يعود تاريخها إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
استعادت هذه المدارس القديمة، التي تم تأهيلها مؤخرا من قبل وكالة التنمية والتأهيل بفاس، رونقها السابق وتستقبل مرة أخرى الطلاب المتحمسين للمعرفة.
ويشهد تناغم الخطوط وغنى الزخارف داخل هذه الهياكل على الذروة الفنية التي بلغها المغرب في هذا الوقت، والتي تنافس إنجازات المشرق والأندلس.
إن ترتيب الغرف حول الفناء المركزي، وهو نموذج من عمارة المدارس، يذكرنا بمدارس القاهرة الشهيرة. سمح هذا النموذج المعماري، الذي يجمع بين الجماليات والوظائف، للطلاب بالاستفادة من بيئة تساعد على دراسة أسس الدين، مع توفير أماكن إقامة مريحة لهم.
وبحسب أستاذ التاريخ ورئيس جمعية أساتذة علم الاجتماع بفاس، عبد الفتاح دوبلي بناني، لعبت المدارس دورا أساسيا في عهد المرينيين، وهي فترة مزدهرة ظهرت خلالها أكثر من خمسة وثلاثين من هذه المؤسسات التعليمية. منها نحو عشرة في مدينة فاس وحدها.
وأكد السيد بناني، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن ازدهار المدارس الدينية في فاس ليس بالأمر الهين، فالمدينة الإدريسية تحتضن جامعة القرويين المرموقة، وهي منارة حقيقية للمعرفة تستقطب الطلاب من جميع الخلفيات. وفي مواجهة هذا التدفق الدؤوب، أصبح بناء مدارس جديدة أمرًا ضروريًا لتلبية الحاجة إلى الفصول الدراسية وسكن الطلاب، مما جعل هذه المدارس أول “مدن جامعية” في التاريخ.
ولكن بعيدًا عن مهمة التدريس الأساسية هذه، لعبت المدارس أيضًا دورًا رئيسيًا داخل الدولة المرينية من خلال العمل كأطر للتفكير في المسائل القانونية والدينية، مع تدريب المديرين التنفيذيين الإداريين والدينيين المستقبليين الذين تحتاجهم الأسرة الحاكمة.
اليوم، هذه المدارس الجليلة، التي نجت عبر العصور بمرونة ملحوظة، مندمجة بشكل متناغم في النسيج التراثي لمدينة فاس.
إنها تشكل نقطة جذب رئيسية للسياح الباحثين عن الأصالة والجمال، ولكنها أيضًا رابط حي مع ماض فكري وثقافي غني. وبفضل جهود الحفاظ والتحسين، ستستمر هذه الجواهر المعمارية في التألق، لتكون شاهدة أبدية على التراث العلمي والفني الغني للمدينة الإدريسية.
عن: h24info (بتصرف)
عن موقع: فاس نيوز