ملك جبر الخواطر.. بقلم الكاتب العراقي: علي الصراف.. (بدون تصرف)
منشور على الموقع الإلكتروني لجريدة ‘العرب’ يومه الاثنين 2022/02/14
محمد السادس ملك بالطبيعة والوراثة ولكنه ملك إذا أصيب شعبه بأذى وجدته يسارع إليه ليغيث المنكوب ويقيل العثرة ويجبر الخاطر، يفعل ذلك منذ يومه الأول على العرش إلى اليوم.
ملك، إنما يقيل العثرة ويجبر الخاطر
محمد السادس هو أول ملوك السلالة العلوية الذي يمكن أن يغرس أقدامه بالطين إذا وقع ما يستوجب ذلك. قائد تجده أينما اقتضت الحاجة أن تجده. رجل يُهاب ولا يَهاب، إنما لكي يوضع الصحيح في نصابه، فيراه المسؤولون ويدركوا ما عليهم، وإلا دفعوا الثمن.
عندما وقع الزلزال الشهير في بلدة آيت قمرة في الحسيمة في فبراير عام 2004، الذي أدى إلى المئات من الضحايا، لم يكتف الملك بزيارة موقع الزلزال، ولكنه نصب خيمة في وسط شارع، بين المئات من الخيم الأخرى، ليقيم فيها. ولخمسة أيام بلياليها، كانت تلك الخيمة هي مركز عمليات الإغاثة. اختار هذا الملك، الاستثنائي بجرأته، أن يشارك الناس إحساسهم بذلك الزلزال.
اليوم إذا عدت إلى تلك البلدة فلن تعرفها لشدة ما تغيرت. والحسيمة، التي ظلت مهملة لعقود طويلة، صارت مدينة تنبض بالحياة. المدارس والكليات ومعاهد التأهيل المهني، فضلا عن الخدمات الأساسية الأخرى، صنعت منها ومن بلداتها وقراها مجتمعا جديدا.
السنوات التالية ظلت تشهد أنه ما من فاجعة حدثت، إلا وكان لـ”ملك الفقراء” كما صار يُعرف، دور مباشر في الإغاثة والتعويض ودرء الضرر. يذهب إلى موقع الحدث بنفسه ليبدو كما البلسم على جراح الناس، فتشفى بما يستدرجه من مساعدات إغاثة وخطط لما بعدها.
بعض حراسه يحاولون منعه أحيانا من الانغماس بحشد من مواطنيه، إلا أنه لم يكن ليتردد في تخطّي موانعهم. يبتعد عنهم وكأنهم عائق حيال ما جاء من أجله.
تولى محمد السادس عرشه في عمر مبكر نسبيا. بدا منذ اللحظة الأولى شخصية مختلفة، واختار أن يكون ابن عصره. وحتى في سفراته في الخارج، فقد ظل يؤثر التجوال بين الناس، فيزدحم من حوله الراغبون بالتقاط الصور.
لم يكن انشغال محمد السادس بمتابعة محاولات إنقاذ الطفل ريان في تلك القرية النائية من قرى شفشاون، على علاقة بأيّ شيء يتعدى حدود الدور الإنساني الذي ظل يؤديه كل يوم
ما من ملك في العالم التقطت له صور تجوال حرّ في الشوارع بمقدار ما حصل مع هذا الملك.
العمر يسمح طبعا. ولكن ليس العمر وحده هو ما يقرر لأيّ ملك ما يفعل. محمد السادس، حتى بعد أن تجاوزت به السنوات، ظل كما هو، ينبض بالرغبة في أن يكون مع مواطنيه، من دون تحفظات ولا مخاوف. ليس من دون حراسة طبعا، ولكنها خارج الصورة في معظم الأحيان.
سهل للغاية، أن يقال إنه يدافع بذلك عن عرشه. ولكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. المسافة بين الانتماء لعرش وبين قيادة شعب، تنطوي على تفاصيل أشد ثقلا من مجرد الدفاع عن مُلك. وعندما يُصبح الانشغال بهموم الناس ورعايتهم وسيلة من وسائل ذلك الدفاع، فالحقيقة، على وجهها الآخر، هي أن ذلك هو المرتجى من كل مُلك أصلا.
في مارس 2009، ذهب في زيارة إلى منطقة عين تاوجطات بنواحي فاس بعد أن تضررت بموجة من الأمطار الغزيرة، فأغرقت شوارعها بالسيول والطين.
الصحافة المغربية قالت، في ذلك الوقت، إن الملك عندما غرس أقدامه بالطين أراد أن يقدم للمسؤولين درسا بأن يخرجوا من مكاتبهم ليروا كيف يعيش مواطنوهم. وللعاقل أن يحسب، أن هذا ليس هو كل السبب. محمد السادس لا يخشى، بوازع من نفسه هو، أن يغرس أقدامه في الطين، وليس لغاية أن يقدم درسا لأحد. فمن لم يبلغه الدرسُ من نفسه، لن يبلغه حتى ولو رأى ملكا يفعل.
محمد السادس ملك بالطبيعة والوراثة، ولكنه ملك إذا أصيب شعبه بأذى، وجدته يسارع إليه، ليغيث المنكوب ويقيل العثرة ويجبر الخاطر.
يفعل ذلك منذ يومه الأول على العرش الى اليوم. صار الأمر جزءا من طبيعته. ليركض من ورائه المسؤولون والوزراء والقادة المحليون. حضوره كاف لكي يرفع المعنويات ويستجمع الإمكانيات ويوفر الموارد.
ملك ومواطن؟
على الأرجح نعم. زادته السنوات خبرة، ولكن لم تختلف طباعه. بقي شابا.
ذات يوم شُوهد في تلك الحسيمة بالذات، وعيناه تذرف دموعا. ربما بسبب استقبال حار من بلدة ألفت في ماضيها أن تتمرد على أسلافه. إلا أنها رأت فيه زعيما مختلفا.
استجاباته لمطالب المغاربة واحتياجاتهم، وبل ومشاركتهم في الضغط على حكوماته، جعلت منه ملك شعب لا ملكا على عرش فقط.
بعض حراسه يحاولون منعه أحيانا من الانغماس بحشد من مواطنيه، إلا أنه لم يكن ليتردد في تخطّي موانعهم. يبتعد عنهم وكأنهم عائق حيال ما جاء من أجله
المغاربة طيبون وبسطاء، ويدينون بولاء طبيعي لسلطة ملكهم. ولكن الإصلاحات التي قادها محمد السادس منذ سنوات الأولى، زادتهم ولاءً له. صار الفصل بين السلطات عاملا حاسما في الفصل بين مهمات الحكومة وواجباتها، وبين مسؤوليات الملك وسلطته. صاروا يعرفون أين يصبون جام غضبهم إذا غضبوا، وأين يضعون أبصارهم طلبا لنجدة من ظلم أو ضرر.
“شعبي العزيز” كانت كلمة يفتتح الملك الراحل الحسن الثاني الأغلب من خطاباته. و”شعبي العزيز” هي أيضا الكلمة التي يفتتح بها محمد السادس الأغلب من خطاباته أيضا. ولكن لكل واحدة منها ثقل مختلف. وسياق مختلف. الأولى ربما كانت نمطا من سيادة متعالية، إلا أن الثانية ارتباط مشاعر.
كلمته هي العليا. وإرادته هي الأعلى. إلا أنهما كلمة وإرادة تدوران حول محورين كبيرين: استراتيجيات البناء والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والإصغاء لنبض مواطنيه. والعزيز عزيز في كل ما يستدعي على الحكومات أن تفعل.
لم يكن انشغال محمد السادس بمتابعة محاولات إنقاذ الطفل ريان في تلك القرية النائية من قرى شفشاون، على علاقة بأيّ شيء يتعدى حدود الدور الإنساني الذي ظل يؤديه كل يوم، وفي كل مناسبة، وفي كل طارئ. كان شيئا على علاقة به هو، بطبيعته هو نفسه.
زادت فيه السنوات، إلا أنها لم تزده إلا ارتباطا بشعبه. هو الملك وهو أمير المؤمنين وهو الذي تُهاب كلمته، ولكن محمد السادس ظل هو نفسه محمد بن الحسن الثاني بن محمد (الخامس) بن يوسف بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن محمد بن عبد الله الخطيب بن إسماعيل بن الشريف بن علي العلوي.
لعلك تقول أيضا، إنه ملك يجر وراءه تاريخا يمتد إلى نحو 900 عام. ولكن تلك الأعوام هي المغرب أيضا. وخلافته امتداد لآخر ما نعرف من الحضارة الإسلامية، بعد أن أشرقت كل إشراقها في الأندلس.
الملك الذي تولى العرش شابا في الثالث والعشرين من يوليو 1999، ما يزال شابا. قال في خطابه الأول إنه يريد التخفيف من عبء الفقر، والتواصل مع الشعب، وتقديم مفهوم جديد للسلطة. وهذا ما حصل. الفقر لم ينقض بعد، ولكنه لم يعد كما كان قاهرا وسائدا. مدن البلاد أكثر عمرانا وثراء مما كانت في أيّ وقت. وقيم التضامن الاجتماعي التي تبدأ من مبادرات القصر صارت منهجا تقليديا. ولم تعد السلطة منذ انتخابات العام 2002، مثلما كانت أبدا.
امتص المغرب منذ ذلك الوقت آثار منعطفات عنيفة، ليس أقلها تفجر أعمال الإرهاب، والمطالب الاجتماعية المتزايدة، وبدلا من أن يأتي إليه مواطنوه، صار هو الذي يذهب إليهم.
لم يكن شيئا غريبا، أن تتحول مأساة الطفل ريان إلى شاهد جديد على ملك بدأ مختلفا عن أسلافه، وظل يغرس أقدامه حيثما انغرست بمواطنيه القدم.
ملك، إنما يقيل العثرة ويجبر الخاطر.