محمد إنفي:
بعد أن انتهت مأساة الطفل ريان برحيله عن هذه الدنيا والتحاقه بالملأ الأعلى، مخلفا وراءه حزنا عميقا إن على المستوى الوطني أو على المستوى الخارجي؛ وبعد أن ووري جثمان الطفل الأيقونة الثرى، وتوالي رسائل التعازي، المؤسساتي منها وغير المؤسساتي، القادمة من كل حدب وصوب، والموجهة إلى العائلة المكلومة وإلى كل أفراد الشعب المغربي من القاعدة إلى القمة، أو من القمة إلى القاعدة، يمكن للمرء أن يجلس إلى نفسه، بعد إسدال الستار على هذه الفاجعة، ويتمعن فيما حدث ليستخلص بعض الدروس، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العام.
لكن قبل ذلك، لنقف قليلا عند الحادث المأساوي المتمثل في سقوط الطفل ريان ذي الخمس سنوات في بئر مهجورة، عميقة وضيقة. من منا لم يفكر في معاناته المختلفة (مع البرد، مع الظلام، مع نقص الأكسجين، مع الجوع…؛ دون استبعاد فرضية الألم بسبب الرضوض أو الكسور التي قد يكون تعرض لها عند سقوطه في البئر؛ وسوف يتبين فيما بعد أنه تعرض بالفعل لكسور متعددة؛ مما تسبب في وفاته)، وهو في غيابات الجب؟ سقوط الطفل في البئر جعل المغاربة يضعون أيديهم على قلوبهم وهم يترقبون، بين الخوف والرجاء، ما ستسفر عنه عملية الإنقاذ. وقد تتبع معنا العالم، من خلال الإعلام الدولي ووسائل التواصل الاجتماعي، هذه العملية التي لم تكن لا عادية ولا سهلة نظرا لعمق البئر وللموقع الجغرافي لمكان الحادث؛ وقد شاركنا العالم آمالنا ورجاءنا في نجاة ريان، وهو يتابع عمل فرق وأطقم الإنقاذ عبر مختلف وسائط الإعلام؛ وسوف يشاركنا أحزاننا أيضا بعد خبر رحيل ريان، حيث عم العالم حزن عارم.
لقد بُذل مجهود خرافي من أجل انتشال الطفل من قعر البئر، ساهمت فيه فرق الإغاثة بمختلف مكوناتها (رجال الوقاية المدنية، الهلال الأحمر المغربي، مهندسون، مساحون طبوغرافيون، رجال الدرك، مهنيو الحفر بالجرافات، متطوعو المجتمع المدني، أطباء…وتتبع المسؤولين المحليين لهذه العملية) لمدة خمسة أيام، لم يتوقف الحفر خلالها لا ليلا ولا نهارا. واستعدادا للتدخل السريع، فقد حضَّر الدرك الملكي طائرة هليكوبتر مجهزة بكل المعدات الطبية الضرورية لنقل ريان في ظروف آمنة إلى المستشفى لتلقي العلاج.
وقد صاحب المؤمنون في المغرب وفي العالم فرق الإنقاذ بالدعاء والتضرع إلى الله العلي القدير أن يحفظ ريان ويخرجه من الجب سالما. لقد كان الجميع يتلهف إلى أن تنتهي عملية الإنقاذ المعقدة بإخراجه حيا من قعر البئر، ليتم الاحتفاء بنجاته. لكن القضاء والقدر كان له رأي آخر، ولا مرد لقضاء الله وقدره.
لقد خرج ريان من البئر ميتا. ولا نملك سوى أن ندعو لأبوييه بالصبر الجميل، ونأمل أن يكون وقع الصدمة خفيفا على أطفالنا وعلى أطفال العالم.
لقد أدمى الحادث المأسوي الذي ذهب ضحيته الطفل ريان، قلوب المغاربة وحرك المشاعر الإنسانية في الكثير من بِقاع العالم، إن لم نقل في العالم كله؛ تلك المشاعر المتمثلة في التعاطف والتآزر والتضامن الواسع وهو داخل الجب، وكذا في ذلك الحزن العميق الذي عم العالم بعد خبر وفاته.
إن النهاية المأساوية للطفل ريان مليئة بالدروس والعبر، وليس أقلها أن ندرك جميعا بأن المشاعر والأحاسيس الإنسانية لم تمت كما يعتقد البعض وكما يحلو للبعض الآخر أن يروج. لقد استطاع ريان أن يحول أنظار العالم نحو منطقة تامروت بإقليم شفشاون شمال المغرب، وأن يجعل البشرية تنتصر للفطرة ويخفق قلبها بالحب والإنسانية وكل المشاعر النبيلة التي تعيد إلى الإنسان إنسانيته. وقد يكون هذا الدرس هو الأهم في مأساة ريان.
وكما وحد ريان وجدد المشاعر الإنسانية، فقد أحيى أيضا المشاعر الوطنية؛ وهو درس بليغ أيضا. فالمغاربة من طنجة إلى الكويرة ومن الشرق إلى الغرب، يشكلون، عند الشدائد والأزمات، جسدا واحدا ينبض فيه ضمير جمعي لا يميز بين الشعبي والرسمي؛ وتاريخ المغرب مليء بأمثلة البطولات في مواجهة الأزمات والشدائد.
ويمكن أن نستخلص درسا آخر من هذه الفاجعة، لا مكان فيه للعاطفة؛ بل يخاطب العقل؛ وهو أن ريان كان ضحية اللامبالاة؛ ذلك أن البئر تُركت بدون غطاء أو سياج، وكأنها لا تشكل أي خطر. فالحذر كان يقتضي تغطية البئر، سواء كانت مهجورة أو قيد الاستعمال، حتى لا يقع المحظور.
أما الدرس الرابع فله علاقة بالصحافة والإعلام. وأكتفي، هنا، بما ذكره المجلس الوطني للصحافة في بلاغ له، حيث قال إنه “يتابع بأسف شديد بعض الممارسات المشينة، التي صاحبت تغطية محاولات إنقاذ الطفل ريان، الذي سقط في بئر بإقليم الشاون”، مسجلا “العديد من الخروقات المخالفة لميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة، والتي تم ارتكابها من طرف بعض الصحف الإلكترونية، في تجاهل تام للمبادئ الإنسانية التي يتضمنها الميثاق المذكور”، مشددا على أن أخلاقيات المهنة لا تسمح، بأي حال من الأحوال، أن تتحول الأزمات والفواجع ” إلى مجال للربح المادي والإثارة الرخيصة لزيادة عدد المشاهدات وغيرها من أساليب المتاجرة في المآسي الإنسانية”.
مما يعني أن من بين الصحافيين المحسوبين على مهنة المتاعب أو صاحبة الجلالة، من يتاجر في المآسي، كما يفعل تجار الحروب وتجار الأزمات الخ؛ بينما الصحافة مهنة شريفة ولها أخلاقياتها المهنية التي يجب على الجميع أن يحترمها. ويمكن أن نضيف إلى هذا الصنف من الصحافيين بعضا من مستغلي الوسائط الاجتماعية لنفس الأغراض (زيادة المشاهدات طمعا في الربح المادي) أو للإساءة إلى الغير. وأكتفي، هنا، بمثال واحد من خارج المغرب؛ وبالضبط من مصر. لقد كتب المدعو أحمد سالم – الذي يقدم نفسه في صحته على الفايسبوك بأنه كاتب – ما يلي: “أقسم بالله أن الطفل ده لو كان عندنا كان الجيش المصري أنقذه في ساعتين وكان زمانه في حضن أمه بدل وجع القلب ده الله يرحمك ويصبر…”.
لن أعلق على هذا التافه الذي يعتبر نفسه كاتبا، والعالم كله شاهد على ما قام به المغرب شعبا ودولة لإنقاذ الطفل ريان. وما إشادة الأمم المتحدة واليونيسيف والولايات المتحدة وغيرها من الدول بتفاني فريق الإنقاذ وتضامن الشعب المغربي، إلا شهادة يعتز بها المغاربة أيما اعتزاز. وقد أجمل كل هذا الأخ عبد الحميد جماهري، مدير النشر والتحرير في يومية “الاتحاد الاشتراكي”، في عموده “كسر الخاطر” يومه الأربعاء 9 فبراير 2022، في عنوان بالغ الدلالة: “عندما يصفق لنا العالم بالرغم من الحزن”.
هذه بعض الدروس التي بدت لي من الأهمية بمكان في موضوع ملحمة الطفل ريان؛ وما هذا إلا غيض من فيض سواء فيما يتصل بالدروس التي يمكن استخلاصها على المستوى العام أو على المستوى الشخصي. وعلى هذا المستوى بالذات، أجد نفسي في كل ما سبق. لذلك، لا أرى داعيا للبحث عن درس خاص.
خلاصة القول، فاجعة ريان مليئة بالدروس والعبر. ومهما فعل المرء فلن يتمكن من استخلاص كل الدروس في مقال يحكمه سياقه. وكما جاء في “القدس العربي”: “في قضية المغربي ريان.. فازت الإنسانية وخسرت الإثارة”. وهذا وحده درس بليغ يمكن أن يحتوي كل الدروس الأخرى بهذا القدر أو ذاك.
الدار البيضاء في 9 فبراير 2022