الموت الذي يأتينا من ” كوفيد 19″.. محسن الأكرمين

الموت الذي يأتينا من ” كوفيد 19″.

محسن الأكرمين.

المـــــــــــــــــــــــــــــــــوت:

تصرخ بأعلى صوت القهر والغبن، تصرخ في وجوههم لا تميز ملمح أحد من بينهم. كانت قد قفزت عند خط انفعالية الهستيريا الطافحة، كل من يتواجد في القاعة كان يتابع المشهد ولا يجرؤ على النبش ولو بكلمة يتيمة تقلل من حنقها الاضطرابي، الكل يركبه الحزن وتلحظ العيون تسيل بالدمع الممطر ولا قدرة على الكلام إلا بترديد (لا حول ولا قوة إلا بالله). كان الصوت المؤلم يسيطر على فضاء غرفة الانتظار استعمارا. كان صوت التهيج والبكاء يسمع من بعيد، ومن وصل إلى مسامعه بدأ يتجه صوبه لاكتشاف، ما الحدث؟

قرب غرفة الإنعاش، وفي تلك المصحة حدث التجمهر غير المتوقع في الزمان والمكان، وباتت صالة الانتظار دار عزاء، كانت نهاية التنفس الآلي بالموت لطفل الأم. أمام عيونها تم فصل آلات دعم الحياة عنه، بوقوفها قربا من الطبيب استمعت إلى آخر زفير آلي لابنها، مذيلة بعبارة الطبيب (إنا لله وإنا إليه راجعون)، حينها لم يمتلكها الحزن من صدمة الصدفة البئيسة، ونهاية الحياة الفانية لابنها. حينها ابتسمت وعقلها مشوش بين مشاهد الحياة والموت وقالت:”واش صافي انتهى الألم بالموت”. لم يقدر الطبيب عن الإجابة، بل أسندها جلوسا على كرسي منزوي وانسحب. لم يقدر الطبيب أن يقر لها علانية أن المرض انتصر على جسد ابنها وابتلع طاقته الحيوية، لم يستطع حتى أن يحرك رأسه “نعم، انتهى الألم” وانتهت الحياة الدنيوية.

بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي// فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي… كانت تلك كلمات الأم بالاستعارة، وهي ترثي ابنها، وتلعن قسوة قلب الموت، كانت تود أن ترمي المنايا رصاصا قاتلا بلا رحمة و لا رأفة ، كانت تحس بأنها اليوم قد أهدت الثرى ما تبقى من كبد جسدها، كانت تردد بعض كلمات في تيه مستمر، والسعي ذهابا وجيئة بين موجهات عوالم العالم الأربعة. كانت تتساءل عن عِزَّةَ المُهْدَى و حَسْرة المُهدِي.

في منتهى الركن المنزوي طلعت عليها امرأة شديدة بياض الثياب،لا أثر لعنف الحياة على ملامحها الباقية. اقتربت دنو القرب من الأم الحزينة، حينها توقف الصراخ الفوضوي المثير للفجع، استرجعت الأم بعض أنفاسها المتقطعة بالتردد، حين كادت المرأة بمتم انتهاء مواعظها الدينية شدت يد الضغط على وجه الأم وهي تقول:” انظري إلى جوانب الجمال الجانبي عند ابنك…”. كل من في القاعة علم صك الحديث، فيما الأم الأليمة فقد استرجعت وعيها الفوضوي وسقطت أرضا، وقد أغشي على ذاكرتها.

الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــب:

من كلام المرأة التي لا يرى من شعرها الشديد السواد أثر، قد اكتسبت الأم الأليمة مناعة ضد منايا الحزن، اكتسبت جرعة مصل مضاد ضد تعريف الموت، اكتسبت سر بقاء تخليد رمز الحب وتلك الجوانب الايجابية في متسع ذاكرتها المسترجعة. ابن الحياة رحل وارتحلت روحه علوا، حين نزعت عنه تلك الآلات الداعمة للحياة، كانت الأم تسأل أن يعطوها إياه نظرة في وجهه الفاقد لوعي الحياة، كانت تنادي( أعطوني ولدي)، كانت تسترجع نكسا سنوات حب الثدي من الحبو حتى الاعتدال وانتصاب القامة مشيا، كانت لا تؤمن بالموت المجرد من القلب، ولا حتى من التفكير، بل كانت تؤمن برحمة الوجود وبانتهاء الألم المستديم، وحضور بقايا جمالية الحياة.

لن يعيد العويل ولا البكاء تلك الروح التي تسبح سماء مع آخر دمعة ودخان الشمعة التي انطفأ نورها. وفي منتهى ابتعاد المرأة ذات البياض، أدركت الأم أن الحب جزء من الإيمان، تعلمت أن الحياة ليست إلا حلما بين فزع الكوابيس المنغصة وفرح ملونات الحياة البهيجة. لم تعد القاعة يحتلها منشأ الاضطراب النفسي للأم ، بل بدأ الصمت يسود المكان وتفرقت الأرجل الطفيلية تباعا، و حتى الأعين المتلصصة لمشاهد الألم.

 من سنن متابعة الحياة قدما، فقد احتل نفس سرير الموت حياة نفس آلي لا زال يحرك صدر طفلة تغيب عن الوجود الحاضر، نظرت الأم فعلمت أنها ليست الوحيدة التي يمكن أن تكون قد فقدت ابنها موتا. عند ترجلها بالبطء من المصحة كانت كل جوانب الجمال الايجابي عن ابنها تصاحبها في أدراج النزول، كانت تذكر يوم خروجها من مخاض الولادة وهي تحمله مسندا على صدرها، والآن تتركه خلفها وحيدا بلا حركة ويحمل في نعش الموت، وعند متم حركات انسحابها كانت تردد بالاستعارة :عجبتُ لقلبي كيف لم ينفَطِرْ لهُ // ولوْ أنَّهُ أقْسى من الحجر الصَّلدِ.

About محمد الفاسي