إشكالية الأنا والآخر في زمن الرقمنة.. بقلم “عائشة قاديري” عضو الإتحاد العام لدكاترة المغرب

تأسست رؤية الفكر اليوناني للعالم على ثنائية الإنسان والطبيعة، باعتبار أن الإنسان مركز الوجود المطلق، ومقياس الأشياء، وأن حقيقته أنه عقل أو “صورة” في مقابل الطبيعة، ودون العودة كذلك إلى الفكر المسيحي وثنائية الأب والابن، واللاهوت والناسوت الخ… قد يكفي هنا التذكير بأن الفلسفة الأوربية الحديثة هي أساسا فلسفة “الأنا” (“الذات”): الإنسان ذات في مقابل الكون الذي هو موضوع لها. والفكرة المؤسسة لفلسفة “الذات” هذه هي الكوجيتو الديكارتي: لقد شك هذا الفيلسوف الفرنسي في كل شيء و”مسح الطاولة” حسب تعبيره (طاولة فكره)، مسحا ولم يبق لديه أي شيء آخر غير عالمه ليفكر: ومن هنا قولته الشهيرة: “أنا أفكر إذن أنا موجود”. وهذا يقتضي أن وجود “الأنا” سابق ومستقل عن أي وجود آخر. يأتي مفهوم الانا عند الفيلسوف اللاهوتي العالم الفرنسي، بليز باسكال: “للانا خاصيتان، فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم؛ ذلك لأن كل “أنا” هو عدو الآخرين من الناس على الخصوص، ويريد أن يكون المسيطر على الكل”.
من خلال هذا التصور لـ “الأنا” كمبدأ للسيطرة يتحدد موقع “الآخر” ودلالته ووظيفته في الفكر الأوربي، أي بوصفه موضوعا للسيطرة أو عدوا، أو بوصفه قنطرة تتعرف الذات من خلاله على نفسها. يقول سارتر: “أنا في حاجة إلى توسط الآخر لأكون ما أنا عليه”.
ولكن يظل التساؤل الإشكالي: ما موقع ثنائية الأنا والأخر في زمن الرقمنة؟
أصبحت ثنائية الانا والأخر في زمن الرقمنة، مرتبطة بثقافة الصورة ،حيث صارت هذه الأخيرة تلعب في حياتنا الحالية دورا مهيمنا ،لم تعرفه من قبل، فأصبحنا نعيش ونتعايش في زمن الصورة شئنا أم أبَيْنَا، نتحدث بالصورة ، نتمازح بالصورة، نَنتقي أكلاتنا بالصورة، نبيع بالصورة، نشتري بالصورة…، والخطير في كل هذا أن معرفتنا للغير، مبنية على الصورة؛ مرتبطة بها أشد ارتباط، قائمة على الشكل الظاهري الخارجي المزيف، مع ضرب كبيرِ لعالم الباطن والجوهر، فنعيش مع الصورة بمثالية وصدقية لربما مزيفة في غالب أحيانِها؛ إنها صور خداعة ومُزَيّفَة، تَغِيبُ فيه الشفافية والوضوح، فيصبح الكون معها مُختَصَرا في صُورٍ اصطناعية ،ومن ثم ما لبث واقعٍ الأنا مُتَدَثّر بمَسَاحيق تجميل افتراضية .
انقلبت الحياة رأسا على عَقِب، ووقعنا في حيص بيص، فَبَاتَ لِزَامًا علينا لمعرفة الآخر؛ أن تأخُذَ له صورة فوتوغرافية أو يُرْسِلهَا لك، فَتُكوِّنَ عنه معرفة افتراضية انطلاقا من الصورة الافتراضية، هذه المعرفة الافتراضية قد تكون خاطئة وقد تكون صحيحة، لأن الشكل قد يعبر عن الجَوهَر في محض الصدف، وقد يُعَادِيه ويُخَالفُه في أحَايِين عَدِيدَة.
من قَبْلُ وَضَعَ الفيلسوفُ اليونانيّ الحكيم سقراط لمعرفة الغير معرفة حقيقية، قولته الشهيرة : “تَحدّث حتى أراك”، بمعنى التواصل بمهارة التحدث جزء من معرفة الأنا للغير، لكن معرفة الأنا في الواقع المعاصر عُكِسَت بالصورة، فأصبحت معها القولة معكوسة بقولهم: “التقط صورة حتى أراك حتى أتعرف عليك “، هذه المعرفة التي سَتَتَحوّل في واقع الصورة وزَمَنِهَا، إلى ما أسْمَتْهُ الفيلسوفة الفرنسية إلزا غودار Elsa Godart: “أنا أوسِيلفِي إذن أنا موجود” “Je selfie donc je suis”، في مُحَاولة منها في كتابها الذي يحمل نفس عنوان القولة، بَيَان وتوضيح أنّ الأنا أصبح يَعيشُ في العصر الافتراضي تغيرات خطيرة، وتأثيرات على الشخصية أخطر.
فميلاد الصورة قد غَيَّرَ كثيرا من السّلوكيات، وولد نوعا من الفقر الفوتوغرافي وخَلخَل توازن كثير من التقاليد والعادات؛ خذ معي مثلا فترة تناول أسرة لوجبة طعام ما في رحلة سفر ممتعة، الكلّ مُنشغل بأخذ صورة له مع الطعام، والقيام بإرسالها إلى شبكات التواصل، لإثبات الذات والانغماس في فرض هويته وحضوره الافتراضي، إنها هيمنة وتفضيل للشكل على الجوهر، وسطو على الحياة الحميمية التي ما لبثت كتابا مفتوحا أمام الجميع، إنها لحظة من لحظات استيلاب الأنا في العالم الافتراضي.
فالصورة هي لغة ذات طابع رمزي، لها معاني وإيحاءات، ودلالاتها لامتناهية، كُلٌّ يَفهَمُ منها ما يشاء، فهي قَابِلة للتأويلات إلى ما لا نهاية، إنها مَحْضُ تأويلات تُبْنَى على رؤية افتراضية قد تُطَابِقُ الواقع وقد تُخُه.
واليوم أصبح معرفة الانا بالأخر مجرد لايكات وإموجات Emoji، حَلَّ مَحَلّ الكلمات والعبارات والخطابات المطولة التي فقدت وزمن العولمة.
إنها مرحلة انتقالية تجديدية إذن؛ تستبعد مفهوم ثنائية الأنا-الأخر في الفلسفة اليونانية وتلزم من الأنا أن يجد ويثابر في إيجاد دلالة مفاهيمية جديدة لهَ تساير وتتماشى مع العالم الافتراضي، وأنْ تُعِيدَ له التفكير في وجوديته، في زمن الرقمنة ، الذي محوره الصورة التي تعد لب وجوهر الذات الجديدة وهويتها، وأنْ تكونَ الذات على معرفة تامة بميلاد أنا افتراضية جديدة مغايرة للأنا الواقعية، مُتَعايِشَة بذلك مع زمن الصورة ،متبعة في ذلك منهج الإتقان والتقنين في استغلال الصورة حتى لا تسبح في بحر افتراضي خالص، فَتَفْقِد معه الذات طريقها للعالم الواقعي، ، ولكن ينبغي أنْ تَكُون الصورة مجسدة للواقع الذي يعيشُه الأنا حتى تصل كنه الأخر بشفافية ،دون ضبابية ، دُونَ تَكَلّفٍ او تصنع أو تنميق.

About محمد الفاسي