جزارة (كفتة) الجمل ب قبة السوق بمكناس.
محسن الأكرمين.
تواجهت مشاهدة مع رأس جمل معلق بآخر جزّار مختص في (كفتة الجمل) بقبة السوق، بالمدينة العتيقة بمكناس. توقفت عنده، وسألته بالاستنكار: ما أصابك أيها الصبور؟ كنت أعلم بأن مجزرة الذبح الجماعي، والنحر قد أتت على حياته. تمهلت السير، وأنا أعد خطوات المشي القصيرة مع ما تبقى من جزاري (كفتة الجمل) بقبة السوق، والتي استبدلت تجارتها التقليدية بملابس عصرية. تذكرت قبة السوق، أيام سوق الأربعاء الأسبوعي بسيدي سعيد، ورحبة الزرع القديمة المجاورة (للسكاكين)، كانت المدينة بحق مزهوة بكل وافد قصدها قصد التبضّع والبيع. كانت تبدو موسما مصغرا من حج وفود موسم المولد النبوي واحتفالات الشيخ الكامل.
اليوم بقي جزّار الجمل الشاب وحيدا ومحافظا على سلعة (كفتة الجمل) وشحمة الجمل (للكي). بقي يكابد الزمن من التغيرات الاجتماعية بابتسامة مرحبة، فهو يؤمن حتما بتغير مطالب الأجيال الذوقية، والاكتفاء بالوجبات السريعة (بوكاديوس)، وغيرها من ( السندويتشات). كان الجزار في فسحة راحة خارج منصة (قرطة) تقطيع اللحم. كان يناقش بصوت علوي نتائج كأس أمم إفريقيا، وخروج منتخب الجارة الجزائر من الباب الضيق، وسكوت أصوات الدولة العليا من شدة مرارة النكسة!!! كان الجزار يحلل المقابلة ضدا على معلق (bein sports)، وهو يتهكم عن ممارسات السحر في الملاعب الإفريقية، وأمام كاميرات النقل العالمية. يقول: إنه غباء الكرة المسحورة، والسحر المضاد، والرقاة الشداد في فن (سحر التقاف) !!!
تركت صوت الجزار، وهو يتداول مع صديقه اللقطات المميتة للمباراة، وتوقفت عند رأس الجمل المسكين المبتسم بأبهة رمال الصحراء. حينها دارت بمخيلتي مشاهد عملية ذبح الجمل نحرا، وسفك دمه بالتلذذ. تيقنت أن الجمل، كان في رعب من أمره حين رأى السكاكين. وقفت أستمع لآهاته الأخيرة، ورأسه يخاطبني لقد غرر بي بالأكل المريح، وعشت عيشة رفاهية العشب النقي. لقد صاحبوني لعبا، وجريا، وحمولة خفيفة. لقد أمنت مصاحبتهم وانسجمت مع حياتهم، وحتى الحصير التي لم يقدر الحمار على حمله، زادوها على ظهري وأنا بكل طواعية راضيا.
حقا، كان الجمل قبل النحر السريع يبتسم في وجه مالكه، والقاتل يداعبه، ويتحين الفرصة المواتية لكي يلقي به أرضا ميتا. فلا شيء يصير مستغربا حين يصدر القتل ممن تؤمن رفقته !!! ابتسم الجمل حين صار مضرجا بالدم، حين (فات الفوت). ابتسم وترك نفسه للموت ونهاية الألم، أمام أعين ممن أمروا بنحر حلق حياته على عين غرة.
هي معاني السعادة والفرح المختلطة بالمآسي والدماء، لازالت عالقة برأس الجمل المعلق بقبة السوق بمكناس لمدة أسبوعين، وهو لا يبارح مكانه في ركن يعلن (أنا الجمل المبتسم للموت). هو الجمل الذي فصلت أطرافه، واحتفظ برأسه دلالة على أن اللحم هو لحم الجمل الأصيل، فيما الجزار الشاب لم يخبر زبائنه بأن الجمل قد استونق قبل الذبح.
من (فراقشو/ رجليه) الجمل يظهر أنه كان يافعا في سن السنتين (لقي). جمل لم تطأ رجلاه رمال الصحراء الحارقة، بل كان مسيدا، وسيده يقدم له العلف الضروري ليستطيل جسمه لحما. لكن كيف أمن الجمل الفرح، وهو يحضر للذبح؟ كيف لم يفكر في الهرب واستسلم للنحر؟
بسمة رأس الجمل أوقفت طفلا قد أفزعه المشهد، حين سأل أمه: ما حدث برأس الجمل المسكين؟ ومع من يضحك؟ ابتسمت الأم، لكنها أيقنت رؤية أن رأس الجمل يستفيض ابتسامة. تأكدت أن عيون الجمل تتبع كل المارة ومن كل الجهات بابتسامة ورؤية مائلة. حينها، هرولت الأم هرولة من شدة الفزع من (فراقش) الجمل والرأس الضاحك. لكن الجزار كان في عمليات فرم الكفتة لأحد الزبائن وهو يوصيه: (دير لي اللحم بلا شحمة !!! وزيد لي شوية ديال بوشويط). هي عبارات مشفرة لا يفهمها إلا الراسخون في أكل شواية (كفتة) الجمل في قبة السوق بمكناس.