اللغة العربية تطفئ شمعتها الأممية العاشرة
إن اهتمام العرب بلغتها أمر محير ومذهل؛ حيث تعددت وقفاتهم التي كانت تستدعي تقويم وتصويب القصيدة أو البيت أو الكلمة أو الحرف بل حركة الحرف أحيانا، هذا الاهتمام الخطير وتلك العناية الشديدة تروم بلوغ أعلى درجات الكمال.
إن هذا الأمر واضح جلي في مسامراتهم ومجالسهم ومنتدياتهم من مجالس الملوك والخاصة إلى أسواق الناس والعامة، يعرض الكلام على سرير التشريح الدقيق -ومن غير تخدير- فما وجدوا فيه من ورم أزالوه كان صغيرا أو كبيرا خفيا أو معلنا، وهم في ذلك شركاء الملك أو حاشيته أو المتنافسون من الشعراء وحتى الأطفال أحيانا. يتفحص السامعمنهم بفطنته وقوة ملكته ورهافة إحساسه وبذوق خالص صاف وميل إلى أوجه الجمال في اللغة فيكشف كل شائبة أو عيب.
ومن ذلك ما جرى بين النعمان بن المندر والنابغة الذبياني الذي مدحه قائلا:
تراك الأرض إما مت خفا õõõ وتحـيا إن حيـيت بـها ثقيلا
إذ قال للنابغة: هذا بيت إن لم تتبعه بم يوضح معناه كان إلى الهجاء أقرب منه إلى المدح فقال النابغة:
وذاك بـأن حلـلت العز منها õõõ فتمنع جانبـيها أن يـزولا
وهذا الأعشى وقد أنشد في مدح قيس بن معد يكرب:
ونـبـئــت قـيــسـا ولــم آتــه õõõ وقد زعموا ساد أهل اليمن
فعاب هذا الشك قيس وأنكره عليه قائلا: أو شك؟ ثم أمر بحبسه.
ولم يقبل الحجاج لفظ الغلام كونه يوحي بالصبوة والنزق في قول ليلة الأخيلية وإن كان الكلام في مدحه:
إذا ورد الحـجاج أرضا مريـضة õõõ تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها õõõ غلام إذا هز القناة ثـناها
ودخل كُثَيِرعلى عبد الملك بن مروان فأنشده:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة õõõ أجاد المسدي سردها فأذالها
فقال له عبد الملك: “أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس بن معد يكرب:
“وإذا تجـيـئ كتـيـبة مـلومـة õõõ شهـباء يخـشى الـذائـذون نهالـها
كنت المقدم غير لابس جنة õõõ بالسـيف تضرب معـلما أبطالها”
فقال: يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم.
تفسير –والله- مقنع لأن الفارس مهما كانت شجاعته ونخوته وفروسيته فإن دخوله حربا بغير عدة رعونة وتهور، والحكمة تقتضي دخول الحرب بسيف ودرع ودلاص تتكسر عليها السهام والنبال فلا تصيبه.
وهذا طرفة وهو صبي يلعب مع الصبيان، يقوم شعر الكبار بقوله المشهور: “استنوق الجمل” لما سمع قول خاله المتلمس :
و قد أتـناسى الهـم عند اذكاره õõõ بناج عـليه الصيعـرية مكـدم
كون الصيعرية صفة للإناث من الإبل لا لذكورها.
ولأنهم يحسنون السمع أعابوا على النابغة ليس اللفظ أو الحرف بل حركة الحرف، فقالوا له لقد أقويت في شعرك فلم يفهم حتى أتوه بمغنية بينت بمد صوتها الكسرة في “مزود” والضمة في “الأسود” من قوله:
“أمن آل مية رائح أو مغـتدي õõõ عجلان ذا زاد وغـير مـزودِ؟
زعم البوارح أن رحلتنا غدا õõõ وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ”
فقال: دخلت يثرب وفي شعري شيء وخرجت وأنا أشعر الناس.
إن في كل الشواهد المتقدمة ما لا يخفى من ثراء لغوي عز نظيره متصل بلغة ذات قوة وجاذبية وتأثير؛ لكثرة مفرداتها ودقة معانيها هي قطعا اللغة العربية. وكل عام ولغتنا الجميلة بألف خير.
لحـسن بنـيعـيـش
مكناس / المغرب