من واقع أحداث مدينة الأحاجي العتيقة بمكناس.
محسن الأكرمين.
في أزقة المدينة العتيقة، و بقلب مكناس النابض بالحركة الدائمة، تسمو قيم ساكنة مدينة بعز الفخر ووشم ما تبقى من الأثر. تشتم عبق التاريخ بخورا مدويا بالمسك من ماض شامخ حتى مع دوام ظلم الحاضر. في ذاك الزقاق المتفرع من درب بن بالعلام، صادفت رجلا يلتحف الأرض والسماء العلية رقودا. كان الوقت يناهز منتصف النهار، وهو لا يزال في غفلة نوم ممن يعتمر السير والمرور حتى الدواب منها. يبدو من القرب بأن بنيته الجسمانية نحيلة، يبدو أنه يكابد شر التهميش، وما صنعه زمن المتغيرات البئيسة بالمدينة العتيقة بالأرض والساكنة.
لم يكن يعر حركة تقلب جسمه ذات اليمين ولا ذات الشمال تلاحظ، فهو أصلا من فئة أصحاب كهوف تهاوي دور المدينة العتيقة، لم يحفل في نومه الغارق تركيزا للغو الكلام الصارخ بين المارة، لم يحفل حتى بالنظر إلى ما تبقى من تقوس جسمه للمرور في ذاك الزقاق الضيق الأطراف. كان يدير أنفه إلى حائط منزل متهالك هو الآخر. كان المكان مألوفا عنده من شدة ترامي بقايا مهملات بادية بمتسع نومه. من نومه كان يحس بالأمان المطلق فهو لا يتوسد هاتفا ذكيا ولا يحمل محفظة نقود تجعل منه فريسة قطاع الطرقات الجدد. من نومه تحس أنه طلق الدنيا بالثلاث ولا يسعى إلى محلل ليعود إليها بأمن وسلام. من نومه تقف على أن تعب الحياة يصدر صمتا بضمير (أنا عييت…)، قد نال منه شدة وبات لا يحصي حلم أمل التغيير في عيش دافئ كريم.
كل من يمر بمحاذاته يجعل بينه وبين من يرقد في ذاك الزقاق الضيق مسافة ابتعاد، ومتسع أمان كي لا يدوس عليه غفلة. هو لا يأبه بمن يقف ويتوحد في صف طويل ليمر بأمان ودون أن يقض مضجع نومه، هو يحس بأن السماء حماية له، ويمتلك سلطة احتلال الملك العام نوما في ظل غياب أخلاق العناية بالمدينة، وتهاوي كل الفنادق العتيقة التي كانت تأوي من لا منزل له. حين اقتربت منه أحسست بأن حلما يداعب مخيلته برفق، وبابتسامة مضمرة. أحسست أنه تخلص من كوابيس الحياة المضنية، وبات هو من يشكل كابوسا على الوضعية الاجتماعية للمدينة القديمة ومفهوم تجديد الكرامة والإنصاف. حين نظرت بخطف العين نحو وجهه الملتحف ثلثه في رداء عتيق، وجدته أنه يبتسم باتجاه الحائط المتهالك، وجدت أن قطا أصفر اللون ينكمش عند صدره وهو آمن من شر بني البشر، وجدت أن تواجده بذلك الحي قد عمّر طويلا وبات مشهده مألوفا عند الساكنة بذلك الزقاق الضيق.
قبل أن أصل بالتوازي من خط العرض معه، كان امرأة من الطراز التقليدي تسير ببطء، لم تستدر نظرة إلى من هو ملقي في قارعة الأرض وكيف بات ليلته عراء؟ لكني لاحظت أنها توقفت من السير وهوت أرضا بنصف جسمها لتلتقط كسرة خبز قريبة من مساحة ما تبقى من ذاك الزقاق. تفهمت قيمة الخبز باعتباره نعمة الحياة عند المغاربة، استأنست بمخيلتي وأنا مع الوالد رحمة الله عليه حين يتوقف عن المشي ويحيّد قطعة خبز مرمية وسط الطريق إلى زاوية مغلقة بعد أن يقبلها احتراما. كان نفس المشهد في ركح الزقاق المتفرع قبالة درب بن بالعلام بالمدينة العتيقة يتكرر من الماضي نحو الحاضر المتغير، ولكن اليوم باستحضار علامات استفهام موضوعاتية وحتى الوظيفية منها.
توقف التفكير عندي واستنهضت الضمير الحاضر بالتساؤل، ماذا لو حملت المرأة الرجل من وسط الزقاق وقبلته ودفعت به إلى الحائط المتهالك؟ أحسست بسوء السؤال، و من افتراضات السائل بضمير الغائب، أحسست أن الكرامة للإنسان قبل (كسرة) الخبز التي تركتها تلك القطة الصفراء بدون أن تعيرها اهتماما بالمضغ المضني، أحسست أن القطة تريد حتى هي مقاربة الإنصاف والعدل وعيش الكرامة، وقطعة لحم، وسرير ليس بالفاخر.
سلام عليك يا وطني ونحن نعز الأرض والساكنة. سلام عليك يا مدينتي العتيقة بمكناس وأنت على شفى حفرة من التهاوي والردم وتغيير معالمك الإنسانية والبنائية. سلام على جذر التصرفات البريئة الممتدة والتي لم تتغير قدما نحو تجديد قيم المفكر فيه (الإنسان أولا). سلام على نسياننا أن الكرامة كانت للإنسان حين حمل أمانة العيش في الأرض وليس أرضا. سلام عليك مملكة الفوارق الاجتماعية، ونحن نحلم بمستقبل العدالة الاجتماعية. سلام علينا بالجمع حين مررنا جميعا دون أن نحدث فزعا موقظا لرجل ظل نائما لعدة سنوات في زقاق متفرع عن درب بن بالعلام بالمدينة العتيقة لمكناس .