محسن الأكرمين.
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، مدينة السلاطين، قد تخبو الذكريات غورا ولا تبقى منها إلا تلك الأطلال الشاهدة عن أحداث من ماضي مكان مرمية هنا وهنالك بالتلف والنكران. بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، بقي حديد طاحونة بادية بالنسيان و تعلوه السماء. اليوم لن أتحدث عن أطلال بيت الحبيبة التي رحلت بدون عودة إلى الوراء، ولا عن شجرة الزيتون التي تحمل الحروف الأولى بتوقيع الوفاء (أنا ليك، وأنت لي). اليوم سيكون حديثي عن أول مطحنة للقمح والشعير بحي الزيتون الجبابرة بمكناس. كانت بحق (طاحونة الطلاسم ) التي تحركها الطاقة الكهربائية، بدل الجهد اليدوي/العضلي بتدوير الرحى من عهد التاريخ الحجري.
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، كانت تلك المطحنة التي نقصدها جميعا لطحن القمح أو الشعير(وتشريد الفول…وقمح الزميتة صداق العيساوية)، كانت عبارة عن بناء بسيط مغطى بالقصدير، كانت رحاها تدور باتساع خاطر (مالين الماكينة أبا محمد (أحمد الريفي) وأبا قاسم النصيري). فحين يكون (أبا قاسم) في نشوة تامة تشتغل (الماكينة) الطاحونة بكل أريحية وبالسرعة القصوى، ويمكن أن تحظى بلحظات سعيدة لأن تصعد إلى علوها، ويكون لك السبق والتشريف بصب القمح في حوضها (الجفنة)، إنها حقا كانت لحظات لا تنسى من الصغر، ونحن نحمل الكيس القمح المطحون على أعناقنا ونصبح في الأخير بيضا (مثل فئران التجارب) من شدة ليونة الطحين الدافئ.
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، كنا نقطع المسافة الطويلة بين العراصي والقصب المتدلي منها، كنا نتقن فن (الزليق) في( الغياسة) ونحن في نشوة من حياتنا الصغرى. كنا نلتقي أبناء الحي جميعا عند مدخلها وننتظر (المعلم الثاني أبا أحمد الريفي) حتي يأتي وهو يحمل ذاك (القراب) الذي صنع من الدوم ولا نعلم ما به إلا حين نشتم رائحة بالمطحنة مغايرة عن أنوفنا الصغيرة، ولا تشبه دخان السجائر… كنا نرى ونتساءل بطفولية: لما قنينة الشاي لونها أسودا داكنا؟ آه منك يا دنيا!!!
بحي الزيتون الجبابرة، بمدينة مكناس، بالمدينة الأميرية الإسماعيلية، كنا نتمرن على احترام الصف (صف الأكياس)، وتملك سلوكيات الإنصاف، ومعادلة الحق أمام طاحونة الطلاسم التي لا تتوقف إلا بأمر من (أبا قاسم). كنا نتعلم بيننا القيم وتربية أخلاق العناية بتسبيق الشيوخ ونسوة الحي وباحترام تام وبزيادة، مع تقبيل اليد وانتظار دعاء (الله يرضي عليك أولدي). كانت حتى مواعيدنا الغرامية الصغرى بالإعجاب المتباعد تتم أمام المطحنة ونحن صغار السن بالتمييز، و نتعلم فن رسم القلوب وبدايات الحب العذري.
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، لن أبكي أطلال حي فكل المعالم قد تغيرت وتبدلت حتى الوجوه منه، حتى بيت جدي الكبير انمحى من الواقع، غير الذاكرة التي لازالت تتسع له، وأصبح شيعا من آجور أحمر، آه منك يا دنيا!!! اليوم تبقى آثار المطحنة شامخة بحديدها الصدئ، وتقول: للتجديد بئسا لك أيها العمر المتحول بالتغيير، بئسا لك أيتها التحولات الآتية من المخابز والمطاحن الكبرى، والتي ما طحنت إلا العمال والأجساد والبطون بالمرض.
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، تقول طاحونة الطلاسم: قد شاخ بي النسيان والإهمال من أبناء جيل حي الزيتون الجبابرة ومن عاصرني وقضى الله فيه أمرا. تقول: انظروا قد شاخ حتى من كان يحمل كيس قمح منزله عندي صغيرا ، وبات لا يتذكرني أو يترحم علي حتى بكلمات بريئة (كنت هنا يوما ما !!! ).
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، مدينة السلاطين، اليوم هي الأطلال الباقية التي لم نقدر نحن ساكنةالزيتون الجبابرة من حمايتها باعتبارها رمزا من تاريخ حي وساكنة أصيلة تربت على الأنفة والتقدير، والوفاء للإنسان والمكان، لم نستطع كما أخبرت لاحقا أن نسجل في التاريخ الماضي المكتوب لا الشفهي، أن الشهيد المهدي بن بركة قد عقد اجتماعا مع ساكنة حي الزيتون الكبار بالقرب منها. اليوم حين اقتربت منها دنوا سمعت مسامرها الداخلية تحكي دمعا عن الزمن الماضي الذي ما انفك يمضي بمائه وعراصيه وناسه.
بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، مدينة السلاطين، تذكرتني وأنا صغير السن بالتمييز حين كنا نسميها (طاحونة الطلاسم) نسبة إلى نص قراءة أحمد بوكماخ (حويت ما بالعالمين) وهي الجملة التي نفهما بتاتا إلا ضحكا خفيا… اليوم لم أحمل لها كيس قمح بيتنا القديم (بدرب بوقطيب الغياسة)، فالزمن قد فعل فعلته بمن سكنه واستوطنه، اليوم أتيتها بشمعة نهارا وأشعلتها نهارا على (جفنتها) العلوية حتى نتذكرها جميعا ساكنة الزيتون كتراث حي وما كان يصطلح عليه ناس القبيلة.