تلتقط تيللي أنفاسها وهي منهمكة في مداومة الصعود نحو المنعرج الغائر بالجبل. حين شدت على يد إيثري، دعاها إلى أن تخفض من تسارع دقات قلبها، وأن تتنفس بهدوء الاسترجاع. كانت تيللي تحمل طاقة سوداء تبدو فوق رأسها كهالة تتبع حركاتها غير المتزنة. لم يكثر نقاش إيثري من ملاحظته الوصفية على تبعات نفسية تيللي، بل آثر على مسايرة المشي نحو إطلالة علوية على بحر المقدمة.
في استوائهما على شرفة صخرة الجبل برؤية البحر، نطقت تيللي بكلمات متقطعة أستسمحـ …أستسمحـ…ك فعلا إيثري، حين لم أقدر الرد على رنات هاتفك. لم تكن كلماتها إلا بلسما مداويا لِيَطْمَئِنَّ قلب إيثري الذي كان يحمل اشتياقا من غياب التناظر. في حديثهما العلوي المشرف على أمواج البحر المنكسرة بالتكرار الممل،كانت تيللي تحمل كتابا عن (الحرب العادلة) التي تحاك بمخططات بعيدة وكبرى، وتجري خيوطها بتحريك كراكيز الحروب الصغرى، حينها حضر اسم (أوغسطينوس) في كتابه الموسوعي “مدينة الله”، و(توما الأكويني) وخلاصته في “اللاهوتية”.
تقول تيللي: لم تكن الحرب العادلة إلا تبريرا ساذجا يسوغ البحث عن السلام الكاذب، كما ورد في خلاصته. لم تكن تلك الحرب بحرب “مدينة الله” بل هي حقا مناوشات خفية لضرب معتقدات الآخر. هنا تساءلت تيللي بالاخبار:” إذا كان الإيمان بالله توحيديا يجمع الأديان السماوية، فإله من يشن حرب العدوان، هو نفسه الذي لن يسامح القتلة، وحتما ستطاردهم الملائكة بإنزال شرور جائحة الليل والنهار عليهم”. لكن إيثري في حديثه الهادئ يرى أن بطل الحرب العادلة لن يكون بطلا إلا بمبدأ الدفاع الشرعي، لن يكون بطلا في إدارة الحرب بحد ذات متغيراتها ، بل قد يكون بطلا في الاستعداد لتحقيق السلام والأمن العالميين. ويتساءل إيثري “هل قدر ذرية صناع الحرب بأن توصف لزاما بالقدرة؟ فقد تكون الحرب العادلة تشتعل من المتعصبين حبا في القتل بمبرر الدفاع عن النفس و الشرعية”.
يقول إيثري وهو يعلي من نبرات صوته: في كتب التاريخ عموما يتحول القتلة الأشرار إلى أبطال، قد يتم سحق شغف العيش الآمن بإعلان الحرب العادلة والسطو على الأنفس بالفزع والتخويف، قد يتم تداول الخداع الداكن بالإعلام الزائف، وبعدها تنكشف الحقيقة للعالم من سياسة تأمين السلام إلى سياسة إشعال فتنة الحروب البعيدة، وحتما لن يجتمع بتاتا العنف مع السلام العادل، قد أتساءل هل تلك الحرب العادلة ستدمر ما نؤمن به، أم ستجدده بقيم عادلة؟. حينها أكد إيثري، أن العالم في تحولاته من دعاية السلم إلى دعاية الذعر وترويع الحياة، قد يكون يصنع بدايات عدم التوازن الكوني، وأن العالم قد يكثف من نار الحروب بإضافة نفخة أكسجين تضخ حركة نيران المدافع، وهذا لن يقع حتما إلا إذا تكسرت زجاجات السلم الرقيقة، وامتلأ قعر الزجاجة دما، وأصبح السلم يعرف اصطلاحا بأنه فترة بين حربين.
مر بالمحاذاة منهما عاشقان يهيمان في بسمة متطايرة، وتبادل قبل حارة، مع لمسات جنسية فاضحة. كانت مداومة النظر بتتبع العيون قد ألزم تيللي القول: هذا ليس واقعا حقيقيا، إنها اليوم القبل المثيرة، وغدا قد تصبح من التصورات الزائفة و الباردة. وهي الحقيقة التي نتأكد من صدقها، حيث يوجد بيننا من يتبهرج بمسالك الحياة، يوجد بيننا من يسوق للفرح الرخو بالهرولة. تبسم إيثري وقال: قد نؤمن بما هو نابع من دواخلنا و أخلاقنا وقيمنا، قد نفرح بمشاعرنا وإشعال مواقد الإحساسات الدافئة، أتظنين تيللي أن طبيعة البشر الحسية ضعيفة؟. لم تركن تيللي إلى متسع تفكير مريح، بل كان جوابها بنعت البشر بأنهم مجانين حرب وفتن، والحقيقة التي لا يجب أن نتغافل عنها أن من بينهم يوجد الكاذبون حتى بإعلان الحرب العادلة، فغدا قد نضطر للقتال مرة ثانية ونركب القطار لآخر محطة نزول، ولن يسلم منا في حرب جائحة فيروس أحد مصاب.
لم يترك إيثري متسعا للحبيبة بالاسترسال في الحديث النقدي المطول، بل خاطبها نعم سيدتي، ممكن أن تكون لنا أدوار في تعزيز الحوار وبناء موجهات التفاهم المتبادل بين الثقافات والهويات المشتركة. قد نكون أكثر بحثا و بالجدية عن بطل السلام، بدل تمجيد أبطال الحرب والانبطاح بحدود الأحذية السوداء. قد تكون نضالنا في فسحة المسجد سلمية، مع الدعوة إلى مصالحات الكيانات والهويات وجبر الضرر. قد تكون لنا ثورة ضد الحرب العادلة، و تجسير إعادة الكرامة للأفراد والجماعات.
اليوم يسرني حضورك مع كتاب (الحرب العادلة)، نقاشاتنا المفتوحة حتما تيللي تساعدينني في تصحيح مسودات حياتي. لم يحفلا على ترك صخرة الجبل إلا بتبادل بسمة زينة الحياة وقبلة مرسومة على أعلى الجبين. لم يكن نزولهما من الجبل إلا و تيللي ترقص وتغني أغنيتها المفضلة من الطفولة: “إني أرى والدي في البحر ريسا… إني أرى أمي تصفف شعري… إني أرى كلبي يتبعني عند عودتي من مدرستي… إني أرى كلبي يحرسني وأنا أسير نحو المدرسة الصغيرة… أنا ابنة الحي غير القصي بالبعد عن دوشة المدينة …أنا ابنة جبل المقدمة”.