فيروس كورونا “حرب بيولوجية “
ذ. عبد الناصر النصري
في ظل التطور البشري والقفزة النوعية التي تعرفها المجتمعات في شتى مناحي الحياة وازدهارها اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، وعسكريا. تطور الإنسان ذاته في أمور كثيرة أخذت منحى آخر مغاير لما كان سائد، أو ما كان يجب أن تكون عليه الإنسانية في مساراتها الحياتية.
حيث نشهد في عصرنا اليوم العديد من الأمراض والأوبئة وتحت الكثير من المسميات، رغم أن هذه الأمراض المنتشرة كانت منذ قدم الزمان ولازمت وجود الإنسان والحيوان على حد سواء، إلا أننا اليوم أمام واقع مختلف تماما، بحيث أن الإنسان الذي صنع التطور والوسيلة هو نفسه صانع الأوبئة والفيروسات التي تفتك بجسم الإنسانية جمعاء، وأن هذا الإنسان الذي قدر له أن يعيش إلا في مجتمع متآلف ومتضامن في بناء ذات وسرح الوجود في تكامل من أجل حياة يطبعها السلم والسلام المنشودين، ها هو نفس الكائن الذي يساهم في هدم هذه الحياة والمجتمعات بصنعه أوبئة مخبرية، من أجل الاستثمار وتلبية الرغبات لتغذية الشعور السادي في تدمير الوجود المشترك.
فهذه الحروب التي نعيشها اليوم واحدة تلو الأخرى، هي حروب فاقت تلك الحرب التقليدية بالجيش والسلاح، بل هي حرب نفسية وبيولوجية فتاكة للنوع البشري الذي بات يقف على حافة صناعة الموت، فالإنسان الذي ينشد السلام، هو نفسه الذي يصنع اللاسلام والحرب.
اليوم لم نعد نتحدث عن حرب الجيوش والأسلحة والمعدات العسكرية فقط، بل نحن أمام موقف مختلف كليا. فهذه الحروب أصبحت مدمرة لأنها تهدف الإنسان من الخارج والداخل، ليتعدى الأمر تركيبته السيكوسوسيولوجية إلى هدم البناء الفيزيولوجي، جراء الخطر الكبير الذي يصنعه العقل البشري، والغرابة أن هذا العقل يطمع دوما تحقيق الأمن والسلم.
إن المفارقة في هذا الطرح هي بمثابة منعطف في حياة الإنسانية جمعاء، لأن هذه الحرب الجديدة المبتكرة فرضت على الإنسان نمط حياة جديدة يتداخل فيها الإيديولوجي بالسياسي، والاجتماعي بالاقتصادي. فهذه الحرب الفيروسية لا يمكن التحكم فيها بالقوة أو الأسلحة النووية، ولا يستطيع الإنسان مكافحتها-على سبيل الموقف لا التعجيز- بالجيوش والمعدات الحربية، لأنها منتشرة في كل مكان وفي كل شيء وغير متوقعة.
يمكن إطلاق عليها –حرب الفيروسات- بمثابة غزو يفتك بالإنسان في مختلف بقاع الأرض في القرن 21م. رغم أن هذه الحرب من صنع الإنسان ذاته، إلا أنه لا يستطيع التحكم فيها. إنها خروج عن إرادته وسيطرته، ونحن معها نحارب أنفسنا والهواء الذي نتنفسه والطعام الذي نأكله والماء الذي نشربه، وبذلك نحارب أسوأ مخاوفنا.
بعبارة أدق إننا اليوم وأكثر من أي وقت نحارب الإنسان الذي تبقى فينا، وذلك بحضرنا للتجمع فيما بيننا والتجول في محيطنا الاجتماعي الذي حكم علينا بالانتماء والتعايش فيه. فهل آن الأوان إلى إغلاق ذلك الانفتاح الذي توصلت إليه البشرية بعد سنين طويلة من النزاعات والحروب المختلفة؟ أم بهذا الأمر تحتم على هذا النوع الإنساني المحكوم بالصراع أن يعود إلى أصل طبيعته الأولى؟. فالجواب على هذا التساؤل لا يمكن البحث عليه بعيدا عن تصرفات وسلوكيات الإنسان ذاته، فيما نشهده من شن حروب ونزاعات واستغلال ودمار وقتل للأبرياء واستعراض للقوة.
في هذا الوقت بالذات نرى أن الإنسان باختصار شديد هو في تلاشي مستمر، ونقصد هنا تحديدا ذلك الإنسان الحقيقي الذي طالما عملنا على تحقيقه فينا متمثلا في أسمى تحضره وأخلاقه، الإنسان الذي سعينا جاهدين إلى إنقاذه من جحافل الجهل والوحشية، ها هو اليوم دون تفكير يعود إلى عصور قد خلت.
الحقيقة التي يجب على العالم استيعابها منذ اللحظة الأولى التي انتشر فيها هذا الفيروس، هي أن هذا الوباء في غاية الخطورة ولا يمكن التنبؤ بالنتائج الكارثية التي سيخلفها. أنه عنصر جديد يحتل فضاءات الإنسان دون حرب ودون سلاح، والأمر الذي يجب أن نفهمه هو ليس بالضرورة أن نحتاط من هذا الفيروس كي لا نصاب به، وإنما هو موجود في كل مكان، في الهواء الذي نتنفسه ويشكل المادة الأكثر في جسم الإنسان.
هذا الفيروس (كورونا) من خلال الدراسات والأبحاث المخبرية في علم الأوبئة والبيولوجيا التي بحثت في هذا الشأن، توصلت إلى أنه لا ينتمي إلى زمرة الأمراض العادية التي تنتج عن طريق مرض متفشي، كأمراض الحمى أو داء الجذري..، وإنما هو فيروس مختلف تمام الاختلاف عن تلك الأمراض، فكلمة فيروس هي مصطلح تقني والتقنية هي نتاج تطور في مجال الصناعة. فبعد الحرب النووية التي تهددنا من حين لآخر، فالعالم يواجه حرب من نوع مختلف لا تحتاج إلى أسلحة وجيش، إنما هي حرب بيولوجية محضة.
وإن الحديث عن الأوبئة الصناعية في المختبرات، هو حديث عن حرب حديثة تواكب تطورات العصر. وهي الأكثر فتكا من بين الحروب الأخرى. لأنها بيولوجية تستهدف ذات الإنسان وليس ما يملكه من ثروة.
في هذه الحرب ينتشر الرعب منها مولدا أمراض ووساوس سيكولوجية تهيئ الفرد مسبقا وتعده ليصبح ضحية سهلة عند الإصابة بالفيروس المعدي، فإذا كان الحديث عن الوقاية والمناعة الجسمانية يمكنان الإنسان من إمكانية التعافي في حالة الإصابة، فإن المناعة النفسية هي في مقدمة هذه الخطوة وأكثرها تأثيرا في الإنسان.
رغم الإدعاءات التي تتحدث عن السيطرة على الفيروس، لكن في حقيقة الأمر أنه هو من يسيطر علينا. بحيث نشر الرعب وحاصرنا قبل أن نحاصره، كما أنه فرض علينا قوانين جديدة لم يكن الإنسان ليفكر فيها، زد على ذلك أن هذا الفيروس جعلنا أكثر حذر ويقظة، ودب في النفوس خوف الموت، كما حرك مختلف قطاعات الدول للعمل واتخاذ إجراءات السلامة والتي لم تكن لتطرح لولا هذه الجائحة.
لقد بات الوضع كارتي مع هذا الفيروس يشكل الصدمة القوية للعالم، أنه فاق قدرات كل الدول الطبية ووضع الإنسان نصب هدفه دون غيرة. فعرى لنا على الحقيقة مؤكدا على هشاشة الإنسان مهما وصل تقدمه وعلومه وتطوراته في أكثر من صعيد.
فالحديث عن كل خطر يحدق، هو حديث عن الإنسان والإنسانية ككل. والحديث حول الحماية والحفاظ على هذا النوع، هو أيضا حديث عن رسالة كونية. وبين هذا وذاك إنه لقضية تحتاج منا التأمل وإعادة التفكير بجدية أكثر في معاني الوجود والقيم والأخلاق بعيدين عن كل تناحر أو خلاف في كونية هذا الكائن المهدد بالزوال.
إن طرحا جديد فرض علينا ولم نكن بحاجة إليه في زحمة الحياة التي تعج بالإشكالات الضاربة في تاريخ الإنسان الإجتماعي، التي تحول دون السماح للإنسان بخط خطوة تلمس بصيص الأمل في حياة اجتماعية متآلفة، وبلغة الحداثة السائلة طموحه للوصول إلى حياة كريمة والمساواة.
يمكن القول من خلال ما نشهد جراء هذه الجائحة التي صنعها بني البشر بشكل من الأشكال ليتوصل إلى أكثر اختراعاته علوما، ليكشف الجانب السادي الدفين فيه. إلا أنه لم يحسب أي حساب إلى الكارثة جراء المعدل المهول من المصابين والقتلى الذين في تزايد مرتفع في بورصة الموت، ولا ندري لحد الآن إلى ما سيؤول إليه الوضع في الأيام أو الأشهر المقبلة. ومن جراء هذا الوباء يعرف العالم حصارا من جميع النواحي، بالإضافة لذلك فلا يوجد علاج دقيق وفعال لهذا الفيروس، لأنه ببساطة إذا لم نعر ف مصدر الشيء وسببه لا يمكن أن نعرف كيفية علاجه، وحتى إن وجد علاج سيبقى حليف حظ بعض الفئات التي ستدفع أكثر.
فالعالم مع هذا الفيروس يسابق الزمن كما يسابق انتشار الوباء، في البحث عن حلول لهذه المشكلة المستحدثة التي فاجأت الإنسانية جمعاء، ومع كل خطوة تقدم يتوصل إليها العالم فالفيروس أيضا يتقدم خطوات في الانتشار والتوسع ليشمل بؤر أكثر في سكان المعمور.
فإذا كان الإنسان سبق وضرب مثال السرعة بالضوء، فها هو فيروس كورونا يسري في الهواء وجسم الإنسان وطعامه، وفي كل مكان وينتقل من مكان لآخر دونما عناء ودونما تكلفة، ودون أن يختار الأمكنة والأشخاص باختلاف أجناسهم وأعراقهم. وبعبارة العولمة هو يسابق سرعة الضوء وبذلك فاق التوقع.
فبعد ما أن اجتمع العالم وأصبح كقرية صغيرة، ها هو الفيروس يتجول في فضاءاتها معتبرا إياها موطن كضيف وافد، ولم يجد أرحب له من أجسام العشرات الآلاف من الأشخاص فحلل فيها ضيفا ومستعمرا، وها نحن ذا بعد ان أصبحنا مجتمعات نعيش في كنفها كأسر وأصدقاء فرض علينا هذا الفيروس أن نعزل أنفسنا بعيدين ومتجنبين بني جنسنا خشية انتقال العدوى، فمنع علينا بذلك الخروج والتجوال والعمل واستنشاق الهواء، كما فرض أن نظل تحت ضغط الخوف، إضافة لهذا خلق بين الإنسان تباعدا اجتماعيا أكثر مما كان فيه..