تتبعت ككل الناس قول ورأي الفقيه الدكتور سي لحسن بنبراهيم السكنفل الذي جوز من خلاله الاقتراض من أجل شراء أضحية العيد في حالتين:
الأولى: والتي يتم الاقتراض فيها بين الأشخاص، وفي هذه الصورة جوزه لمن يرى أنه يستطيع السداد بعد ذلك ولو على أقساط، ولو بعد مدة من الزمن، شريطة ألا يرد المقترض للمقرض ما اقترضه منه بلا زيادة ولا نقصان.
الثانية: وهي الحالة التي يتم الالتجاء فيها إلى الأبناك، وهذه الحالة قال الفقيه سي السكنفل أن مسألة الربا هي في الأصل مسألة خلافية وإن كان هو ممن يميلون إلى الحرمة، لكن باستحضار البعد الاجتماعي في شراء أضحية العيد، يمكن القول بجواز الاقتراض من الأبناك لشراء الأضحية جبرا لخاطر الزوجة والأبناء.
وإذا ما رجعنا إلى مقاصد الشرع، وبحثنا في هذه المسألة من منطلق مقاصدي شرعي، واستحضرنا “فلسفة” التكليف في الإسلام، واستحضرنا كذلك حالة المسلمين المستفتين اليوم وما هم عليه من الحرص الشديد على انتزاع فتاوى الجواز في العديد من المسائل ولو بالاحتيال على الفقهاء والعلماء والتدليس عليهم أكثر من حرصهم على معرفة حكم الله فيها، سنجد أن الأحوط والصواب والأدق والأليق هو القول بعدم جواز الاقتراض من أجل شراء أضحية العيد جملة وتفصيلا وذلك للأمور التالية:
*أولا: أن “فلسفة” التكليف في الإسلام قائمة على الوجوب في حالة الاستطاعة واستيفاء شروط وظروف الفعل التعبدي المطلوب، وارتفاع التكليف في حال حصول الحرج والضيق ووجود الموانع الشرعية وعدم القدرة، باستثناء الصلاة التي تجب في كل الأحوال وبالكيف الذي يستطاع وهو أمر معلوم، وهذا في باب الفرائض فما بالك في باب السنن أو السنن المؤكدة.
*ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره ولي أمر المسلمين في زمانه كان يضحي طيلة حياته صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهله وثانيهما عمن لم يضحي من أمته، وهي السنة التي أحياها دائما الملوك العلويون رحمة الله عليهم ولا زال يحييها أمير المومنين محمد السادس نصره الله وأيده، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بنحر كبش عن نفسه و أهله ويأمر الناس ممن لم يستطيعوا شراء الأضحية أن يقترضوا بأي وجه من الوجوه، مع أن الاقتراض بكل صوره وأشكاله كان موجودا أنذاك، ولذلك فالقول بجواز الاقتراض من أجل شراء أضحية العيد من أي جهة كان هذا الاقتراض هو خروج عن الهدي النبوي في هذه المسألة.
ثالثا: أن المراعاة الصحيحة الحقيقية للبعد الاجتماعي في هذه المسألة هو دعوة الناس إلى قيم التكافل والتضامن والتآزر والتراحم وتذكيرهم بما جاء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث تحث على ذلك، والتي منها قوله صلى الله عليه وسلم الذي ورد بصيغ وبروايات متعددة مع الاتحاد والاتفاق في المعنى :”ليس منا من بات شبعان وجاره جائع”، وما روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللع عنهما أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، أَوْ تَقْضِي عنه دينا” وغيرهما كثير…، ودعوة الناس كذلك إلى تحمل مسؤوليتهم نحو جيرانهم وأقاربهم وذوي رحمهم وأصدقائهم ممن يعلمون عدم قدرتهم على شراء الأضحية وإسعاد الأهل والأولاد في هذا العيد، وتذكيرهم كذلك بجواز الاشتراك في أضحية العيد، وتشجيع الشباب والجمعيات ودعوتهم للاشتراك في ثمن أضاحي العيد وتقديمها صدقة لمن يعلمون عدم استطاعتهم، ودعوة القيمين على الصندوق الوطني للتضامن إلى تخصيص جزء من مداخيل الصندوق لهذا الغرض على غرار الأنشطة التي يمولها خلال شهر رمضان الأبرك، وكذا دعوة الشركات المواطنة إلى استحضار هذا البعد الاجتماعي وذلك بالإسهام بأضاحي العيد لفائدة فقراء المدينة التي يوجدون بها مع التنسيق مع السلطات في تحديد المستفيدين، و الدعوة إلى إنشاء صندوق للتكافل خاص بعيد الأضحى يكون تابعا لمؤسسة محمد السادس للتضامن يساهم فيه المستطيعون والموظفون وأرباب الشركات، وكذا فتح نقاش حول مؤسسة فريضة الزكاة وخلق صندوق للزكاة والذي أثاره منذ سنين ملكنا الحسن الثاني رحمه الله وسائر المسلمين…،هذه هي المراعاة الحقيقية للبعد الاجتماعي التي يجب أن ندعو الدولة للانخراط فيها، ونحفز العامة والشباب خاصة عليها لا أن نستنفرهم ونحفزهم على القروض التي تخرب بيوتهم وتثقل كاهلهم والعياذ بالله.
رابعا: أن البعد الاجتماعي استوفاه الدين الإسلامي بما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية من أحكام وإجراءات وعبادات مالية وقيم مجتمعية، وبما قرره العلماء من اجتهادات في محلها انبنت على هذين الأصلين المهمين من أصول التشريع، ولذلك فلا مجال للإتيان بآراء أو اجتهادات (فقهية) غريبة بعيدة كل البعد عما جاءت به أحكام الشرع ومقاصده ونقول على أن مراعاة الجانب الاجتماعي يفرضها أو يبررها.
خامسا: أن البعد الاجتماعي لا تأثير له على الأحكام الشرعية المقررة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة البتة بحيث لا يمكن أن يحرم حلالا ولا أن يحل حراما.
سادسا: أن القول بعدم جواز الاقتراض من أجل شراء أضحية العيد هو من باب سد الذرائع ليلا يتوسع الناس في هذا الأمر فيقعوا في المحرم، خاصة أن الفترة التي فيها العيد تسبقها فترة العطلة وتليها فترة الدخول المدرسي، وكل هذه المناسبات تتعلق بالأهل وراحتهم وسعادتهم، ولذلك إذا ما فتحت هذه الباب باب الاقتراض سيغرق الإنسان المسلم في القروض وما ينتج عن ذلك من المصائب التي لا يعلم صورها وخطورتها وآثارها وحدتها إلا الله تعالى.
سابعا: الأحوط في المسائل الخلافية هو الاحتياط وعدم الميل للفتاوى السهلة وترجيحها وهذا الأمر من القواعد الشرعية الدقيقة المرعية، ولذلك فالأحوط في مسألة القروض الربوية البنكية هو الأخذ بالرأي الذي يحرمها، هذا لو كانت فعلا مسألة خلافية.
ثامنا: أن الذي على المسلم أن يحرص على رضاه هو الله تعالى ورسوله وليس الزوجة ولا الأبناء قال تعالى:”والله ورسوله أحق أن ترضوه إن كنتم مومنين”.
تاسعا: “لا سبيل إلى القول بالاضطرار في مسألة الاقتراض لشراء أضحية العيد، لأن شروطه غير متحققة في الحالة المذكورة … فالاضطرار الملجئ المعبر عنه – لدى أغلب العلماء – بالضرورة أو بالضرر هو ما كان واقعا لا متوقعا …، وهو الذي لا يجد معه المضطر أي سبيل إلا أن يقع في المحظور …، وأخيرا هو الذي يترتب عليه الهلاك الكلي أو الجزئي للمضطر …، والصورة الواردة في رأي السكنفل … كما قد تلاحظ أخي الكريم لا صلة ولا تعلق لها بما ذكر …، أقصى ما يمكن أن يقال في حقها : إنها حالة تفضي إلى الحرج …، وبين الحرج والاضطرار بوْن لا يخفى … والله أعلم وأحكم”. (كلام أستاذي الأصولي المقاصدي الدكتور سي إدريس الزعري المباركي)
هذا وإن احترام علمائنا وفقهائنا وعدم تسفيههم والسخرية منهم واجب في كل الأحوال، وإن أخطئوا وإن اختلفنا معهم وإن جانبوا الصواب فلنجادلهم بالتي هي أحسن، وليس من هدي نبينا وصميم ديننا إلا هذا الذي ذكرت.
والله أعلى وأعلم
(الشريف الإدريسي خريج كلية الشريعة بفاس)