من تاريخ الخرافة بمكناس: حين خطف الجن عروسة في أقدم حمام بالمدينة العتيقة.
محسن الأكرمين.
كانت عمتي رحمة الله عليها قبل أن تبدأ في سرد حكاياتها تستعيد من الشيطان الرجيم، ثم ترشه ريقا على اليسار ثلاثا. كانت حين تذكر الجن والجنيات تُبَسمل وتخفض رأسها، ونحن لا ندري ما تقول !!! كان يبدو علينا الخوف المُسبق في تلك الليلة، وهي تزيد من تنبيهنا أن الجن المارد ماكر، يتربص بنا جميعا، ويمكن أن يفزعنا بحضوره في أية لحظة.
كنا لا نمتلك وعيا شقيا، ما دمنا نتقبل الخرافة بكل طواعية. كنا لا نقدر أن نتخلص من التفكير السحري البائد ، ونحن بمدرسة الجبابرة تعلمنا دروس (أحمد والعفريت) و(الرمح المسحور) و(طاحونة الطلاسيم). كانت تلك الليلة شتوية، وتساقط المطر في فترة (الليالي) كان باردا ومسموعا بالغزارة. كنا نكون حلقة حول العمة رحمة الله عليها، والتي تستهوينا حكاياتها المرعبة والمشوقة حتى النهايات. كانت تلك الليلة مع حكاية العروس التي خطفها الجن من حمام الكدية (الشفا) بحومة مولاي عبد الله بن أحمد، والمجاور بالقرب لضريح الولي مولاي أحمد الشبلي بمكناس. حقا، كنا لا نمتلك غير الإنصات، واستماع الأبكم، واستعمال الخيال الفياض في ربط الكلمات بالصورة المخيفة.
تحكي عمتي رحمها الله، كانت عروسة في غاية الجمال. كانت تمتلك حسن البهاء، والعيون العسلية. عروسة لها خصلات شعر حريرية تماثل لطف حركة تُوَيج الورد. عروسة لم تقدم يوما على تخطي عتبة منزل والديها، خوفا من شرّ العيون الحسودة. عروسة هيفاء تُماثل البدر في الليلة الظلماء. تقول عمتي : كانت العروسة تسكن في منزل بحومة براكة، كانت فسحتها اليومية تداومها على سطح المنزل، وهي تلهو مع مزهريات مشاتلها.
تم خطبة الفاتنة من حضن أبيها التاجر برحبة الزرع بالقبول والإيجاب. لكن للسوء، وفي نفس الليلة سقطت الخطيبة مغشي عليها. ساد الفزع الأسرة، ولأول مرة (تيشدوها الرياح) و(الجواد). حضر فقيه زاوية مولاي أحمد الشبلي، وتلا عدة تعاويذ، معززا تمائمه بآيات قرآنية. أطلق البخور (الفاسوخ)، وَرَشَّ وجهها بماء الزهر. لكن، تقول عمتي رحمها الله: لم تفق العروسة من غيبوبتها. بكت أمّها عيونا سائلة، وساد البيت الفوضى العارمة، فيما الأب فقد” ظلَّ وجهُهُ مُسوداً وهو كظيم” (ق/ك، س النحل الية 58).
حين جلس الفقيه نهاية، أخبر أباها أن مسًّا من الجن قرب البئر المحاذي لباب الدار قد مسها سوء. أنها أصبحت مملوكة لملك الجن حين تخطت على دم ذبيحته، وداست على فرحه، وأفسدت ليلة اجتماع الجن !!! بعد، مداومة التعاويذ، وتعليق كل أنواع (الأحجبة) الواقية من الجن الشرير، استفاقت الفاتنة، واستعادت وعيها بتأني الأيام، لكن حالتها المتدهورة زادت.
هنا استجمعت الأسرة الرأي في تسريع حفل الزواج، وإقامة البناء، لعل (تبدال العتابي) يكون سببا في شفائها. تتنهد عمتي رحمها الله بعمق وقالت : يا ليتهم ما فعلوا !! سبع ليالي من عرس بترتيبات تقليدية، وكان من العادات أن تتوجه العروس مع قريناتها إلى حمام الحومة، حمام الشفا لأن به تشفى كل الأمراض. دخلت المسكينة الحمام الشفا (حمام الكدية). دخل موكب العروس، وهم في فرحة من أمرهم، وزغاريد مدوية. حضر (ﯕوال) و(الطبل) و(التعشاق عن النبي(ص))، كانت الفرحة تهز كل أركان حمام الشفا المظلمة، إلا من شموع منيرة، وباهتة الضياء آتية من ضريح المولى إدريس.
في معزل خاص (قبة) العرائس. كانت العروس مثل الأميرة النائمة، والكل في مداومة خدمتها. لكن لحظة فارقية أتت. حين هبت ريح دائرية وأرضية أطفأت تلك الشموع، حين سمعت جلبة بماء (البرمة)، وباتت تفيض ماء ساخنا. حين سُمع الصّياح المبحوح ممن حضر الحمام، فقد كانت كل الأبواب توصد بقوة الاصطدام، حتى (الفرناطشي) خرجت النار عنده مثل رشّ جهنم، وفرَّ هارباً.
هيهات، هيهات تقول عمتي رحمه الله: الكل كان يبحث عن بوابة الفرار. لكن في منقلب من الأحداث المخيفة، عادت كل الشموع لتنير نورا مضيئاً، باتت قٌبَبٌ الماء تفطر منها رائحة زهر معطر. باتت تسمع في أركان الحمام الدقة العيساوية والحمدوشية، وكل الأبواب الضخمة للحمام تفتح بلا صوت. كل النسوة والفتيات اللواتي حضرن مع العروسة نصفهم مغمى عليهن. لحظة (طيابة) الحمام توجهت مسرعة نحو معزل العروسة فلم تجدها، هنا بقيت تصيح (العروسة خطفوها الجن… العروسة خطفوها الجن…).
أمام عمتي رحمها الله، وجدنا أنفسنا (مكمشين)، والخوف يسككنا. وجدنا أنفسنا وسط الحمام نشارك الجميع في البحث عن من خطف العروسة، هل هو ملك الجن ؟ أم عريس الغفلة ؟ حقيقة، إن الجدال بين الخرافة واللاخرافة بقيمة الوعي والعلم ونحن صغار السن، لم نجد له جوابا شافيا: هل الخرافة تعارض الوعي/ العلم؟ هل الوعي/ العلم يعارض الخرافة؟ هل عمتي رحمها الله كانت أمينة لحكايات جيلها، والمدرسة التي تعلمنا فيها؟
فحين تقديم وتأخير (الخرافة والوعي/العلم) نسقط لزاما في (تقليد فلسفي مسموم/ كتاب الأسطورة الذهبية). الآن، نُقر بالصدق أن التغيُّر من الخرافة نحو الوعي/ العلم، هو نوع من التنازل الذي يصنف الخرافة ضمن الممنوعات الاستهلاكية. إنها بحق العلاقة في التوأمة غير المتطابقة بين بناء الوعي و تمرير الخرافة.