المشهد الحزبي بفاس
=مقال رأي يعبر عن وجهة نظر الكاتب=
بين رهان ترصيد المكتسبات الديمقراطية و التهافت الانتخابي
في تاريخ الشعوب و الأمم لحظات فارقة، و التخلف عن القراءة المتأنية لها و حسن التعامل مع متطلباتها يكون مكلفا، و تمتد آثاره لفترات طويلة و لأجيال متعاقبة.
و اليوم يفرض السياق الموضوعي الذي يمر منه بلد كالمغرب، إحداث مزيد من التراكم في المسار الديمقراطي و التنافس السياسي بما يخدم مصالح الوطن الكبرى و قضاياه الحيوية، و الأحزاب السياسية باعتبارها مكونا مهما من مكونات المشهد السياسي، هي مطالبة بالتحلي بكثير من المرونة الفكرية و الفاعلية التنظيمية و التواصل الميداني، من أجل كسب معركة التدافع مع قوى النكوص و التبخيس السياسي، التي تحاول جاهدة الحد من دور مؤسسات الوساطة ، فالأحزاب مطالبة اليوم- و أكثر من أي وقت مضى- بالدفاع عن دولة المؤسسات، واحترام الحريات وحقوق الإنسان، و بلورة البرامج و المشاريع السياسية الكفيلة بتقديم إجابات عن القضايا الحيوية والانشغالات الأساسية التي تهم الوطن والشعب، لتفادي العزلة السياسية والنفور والعزوف الانتخابي، إنها اليوم مطالبة بتفادي الصراعات فيما بينها و المزايدات التي لن تصب في صالحها، و لا بأس أن يحدث تنافس بينها على أساس برنامجي و نضالي حقيقي بعيدا عن المفهوم الضيق للكسب الانتخابي اللحظي.
إن الداعي للتذكير بهذا الكلام ما يعرفه المشهد الحزبي بفاس من مفارقات غريبة، تستدعي الاهتمام و الدراسة و استخلاص النتائج، فأن تتداعى عدة أحزاب للدعاية المعارضة لمشروع تنموي لطالما انتظرته ساكنة المدينة، و يكاد يجمع الجميع على خطورة الفوضى التي كان يشهدها القطاع – أقصد قطاع مواقف السيارات- و تأثيره السيء على صورة المدينة، فهذا أمر مثير للانتباه، علما أن هذا المرفق كان موضوع شكايات متعددة من طرف الساكنة.
لا بد من الإشارة إذا إلى أنه من المسلم به أن العمل السياسي هو وسيلة لتنزيل برامج الأحزاب و مشاريعها التي تعمل من خلالها على تقديم رؤيتها لخدمة وطنها، أما أن تتحول تلك الأحزاب إلى دكاكين انتخابية كل همها ما تحققه من عائد انتخابي، و لو أدى بها ذلك إلى رفع شعار عدمي مفاده” عرقلة ما يمكن عرقلته” في كل المجالات.
سلوك كهذا يفتقد إلى أدنى شروط التنافس السياسي الراقي، أنى له أن يشجع المواطنين على الثقة في العمل السياسي، بله أن يقنعهم بجدوى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع كآلية وحيدة للتداول على تدبير الشأن العام الوطني و المحلي، و لبيان هذا الأمر لا بد من التنبيه على نماذج من تلك المسلكيات، باعتبارها تشكل نموذجا سيئا للسلوك السياسي الذي أقل ما يمكن نعثه به هو افتقاده للوضوح و الشجاعة السياسية.
النموذج الأول: للزعيمة اليسارية التي ربما أوهمها شباب حزبها أن بإمكانها كسر لعنة العتبة الانتخابية، و الظفر أخيرا بمقعد برلماني من بوابة التشكيك في مشاريع تنمية محلية بعدة مدن، و اختلاق صفحات افتراضية نفهم جيدا كيف يتم تكثير سوادها، و الظهور بخرجات إعلامية مغرضة، و أغفلت الرفيقة دورها المأمول في تجديد برنامج حزبها و منهجه المغرق في نقاش السفخوزات و الكلخوزات بعيدا عن القضايا الوطنية الحية و ما يعالج مشاكل الساكنة، و نتساءل أين كان هذا الحزب كل هذه السنوات؟ و أين كان مناضلوه الغارقين في سبات عميق؟
النموذج الثاني: لمسؤول حزبي لا يفوت فرصة إلا و يكيل فيها وابلا من التهم لخصومه السياسيين، بل صل به الأمر إلى حد النزول للاحتجاج وسط مجموعة من العمال، في محاولة لاستعادة دور الحزب المسند من القوى الشعبية، و نسي الزعيم اليساري أنه كان الأجدر به ان يفكر في السبل الكفيلة ببعث الحياة في شرايين حزبه الذي لم يعد موجودا في الساحة.
النموذج الثالث: لحزب نحترم تاريخه ومجموعة من قياديه ومناضليه، لكن ظهور بعض المتهافتين من أهل الاستفادة تدبيره السابق للمدينة ومحاولة الركوب على الحدث و قلب الحقائق، في الوقت الذي لا زالت نماذج الريع الذي كان يدره هذا المرفق على هؤلاء شاهدة على فساد أصحابها، و ما مشروعهم المرفوض للتدبير المفوض لساحة فلورانس بمحيط دائري يصل إلى 800 متر يجعل جل مساحات أكدال موضوعا لدخل الشركة التي كانت ستستفيد من المرفق لمدة تفوق 70 سنة و بطبيعة الحال في مقابل ماذا ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
النموذج الرابع: و يتمثل في الدفع ممن يفترض فيهم الحياد بجمعوية تم تقديمها كلا منتمية و منحها تفويضا لتوزيع الإعانات الخاصة بكورونا… لتظهر بلون سياسي معين و يعلن عن ترشحها قبل الأوان.
كل هذه النماذج و غيرها من ممارسات بعض رموز الفساد الأخلاقي المتطفلين على السياسة و من يحيط بهم من أهل الاسترزاق و” الولاء للكرمومة” يجعلنا أمام ظاهرة التهافت الانتخابي المقيتة، حيث يفتقد أصحابها لبرامج بديلة و لقوة تنظيمية و قدرة على تأطير المواطنين في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم، و الاكتفاء عوض ذلك بالتجييش و الكذب و الاستهداف السياسي لخصومهم السياسيين بوسائل قذرة ، تحت هاجس الكسب الانتخابي في الاستحقاقات المقبلة.
بذلك تحول المشهد الحزبي بفاس اليوم ” مثل الأقرع فين ما ضربتيه يسيل دمه” فقد تآكلت المنظومات الفكرية والتنظيمية لأغلب تلك الأحزاب، وأصبحت برامج أغلبها عبارة عن شعارات وذكرى حنين إلى ماض لم يستطيعوا التخلص منه للأسف الشديد، و انتهازيين ممن مردوا على التنقل بين الأحزاب بحثا عن الموقع و التموقع.
المشهد الحزبي بفاس اليوم يراد له أن ينسج على شاكلة قوس قزح، متعدد الألوان يريح النظر و يفتقد إلى الفعالية خوفا من تكرار سيناريو التمكين لحزب واحد داخل العاصمة العلمية، و يراد تمييع المشهد السياسي.
ما ذكر سابقا يطرح التحدي أيضا أما بعض الأحزاب التي ضاق نطاقُها التنظيمي حتى ضَمُر، وشَحَّت قاعدتُها الجماهيرية، وهبط معدّل تأثيرها في الرأي العام، و كل ذلك بسبب افتقارها إلى المشروع والرؤية والبرنامج، حتى بات المرء يجهل ما يبرّر لها البقاء من دون بُوصَلة!
هذه التحديات تعود بنا إلى طرح مسألة تخليق الحياة السياسية، و مدى قدرة الأحزاب المغربية على ترصيد المكتسبات الديمقراطية بالبلاد، الجسم الحزبي اليوم لا يحتاج إلى أرانب سباق للاستحقاقات المقبلة ، و يجب أن يعي الجميع كما سبق و ذكرته في مقال سابق أن بين السياسة و الاسترزاق خيط رفيع، و مساحة واسعة، و تقاطع لا يمكن إلا أن يفضي إلى المجموعة الفارغة بمفهوم الرياضيات، و رغم أن القاعدة تقول ” لا مقارنة مع وجود الفارق” و أن ما شاع مؤخرا من ممارسات بعيدة كل البعد عن الممارسة السياسية النزيهة . حيث أضحت السياسة مهنة من لا مهنة له، و حرفة من لا حرفة له، يمارسها مجموعة من الأفراد ممن ينطبق عليهم ” إذا أعطوا رضوا، و إذا منعوا إذا هم يسخطون”.
كل هذا يدعونا إلى التنبيه إلى التمايز الكبير بين ممارسة السياسية كفعل مقصود وهادف يصبو إلى تحقيق مصالح الناس العليا وتدبير شؤونهم بشكل فاعل تطبعه المسؤولية الحقيقية والمحاسبة الحقة، و منطق الاسترزاق الباحث عن الاغتناء عن طريق السياسية.
اليوم الأحزاب السياسية مطالبة بالابتعاد عن المنظور الميكافيلي حيث الغاية تبرر الوسيلة، و من ثم تكون السياسة حسب هذا المنطق عبارة عن : ” مجال للصراع بين الأفراد والجماعات يؤدي إلى اللجوء لجميع الوسائل المشروعة، وغير المشروعة …لحل هذا الصراع” ، إنما المطلوب اليوم أن يشكّل النّشاط الحزبي مظهرا من مظاهر تجسيد قيم الدّيمقراطية وما تحمله من اختلاف الآراء وتعدد الإيديولوجيات، والتنوع في التصوّرات والبرامج السّياسية، إذ يساهم إنشاء الأحزاب في إرساء مبدأ التعدّدية السّياسية بما يعنيه ذلك من تنوع في المداخل و تنافس نزيه على أساس المصلحة العامة و تحقيق مصالح الوطن و التنمية الشاملة و المجالية.
بقلم: محمد الكبيري.. الكاتب الإقليمي لحزب العدالة والتنمية بفاس