دموع.. (فصل من رواية ويلات ذاكرة حالمة) “محسن الأكرمين”

دموع…

(فصل من رواية ويلات ذاكرة حالمة)

محسن الأكرمين.

يحكي إيثري فيقول: “كنت فيما مضى أعرف عيونا باكية بندى غسق الشفق. كنت أعشق طلّ مطر تلك العيون السائلة، حين تسير غديرا نضخا. كان لعيون حبيبتي الباكية تاريخا سجل ذكرى (أحبك وجعي) بلا منازع. كانت حبيبتي أجمل أنثى بين نساء حواء، من ماء دمعها تعلمت ممارسة زراعة الرياحين و تمييز عطر الأزهار. تعلمت أن الألم وجع يحيي الأنثى والحياة، وزمن ورد قد يمتد بين دخان حرائق الحب”.

 من بعيد كان إيثري يشتمّ عطرها الآتي بخطوات رطبة، فقد كانت تلامس وجه الأرض بقوام خفة الهيفاء. كان يقرأ من بسمة ملمح صورتها في لوحة في الجدار كل الممكن. من كلماتها يتعرف على دواخل نفسيتها، والتي تتوالد مثل أهداب العين بخيوط حريرية. كانت في حضوره لا تنظر إلى جوانب المكان، كانت ترافق عيونه وكأنها تعشق نظراته الحادة، كانت ترى نفسها تسكن عيونه بمفردها، إنها الحكايات الممتدة في مرمى زمن الحزن وذكريات دموع.

آه يا زمن الحب، تلك هي حبيبة إيثري، التي من دمعها تنبع الأنهار في سنوات الجفاف ومنه تتوزع روافد العشق مترعة بالورد والأزاهير. كان كل شعرها المصفف لا يستحمل أمواج ما خف من الرياح، كان يحتمي بإيثري مرارا من دخان الحرائق، وكم من مرة جعله شراعا وأمسى بين أنامله في كر ومد يجاري مياه العمر وتحت الجسر بالسر.

 أحب إيثري دمع البكاء في مرمى الحزن، كم كانت تزداد حمرة تلك الخدود الموردة عندما تكون بالوجع مترعة، كانت شقرة نهايات خصلات شعرها نور منارة في ليل دامس حين يكف القمر عن ضياء الشط. كانت تحب أن تنفض وجعها مثل نفض الغبار ودخان البارود، كانت مرارا حبيبة إيثري تصرخ في وجعها الصارخ فوق الجسر بلا سر.

 هو التاريخ بين الولادة وبين مرمى الحب حين يقول إيثري: “أن يوم ولادتي بمداد قلب حبيبتي رسمته كتابة بسجل ميلادي. كان حبرا رائعا من مداد قصص العشق بعيدا عن زمن الوجع خلف الحدائق. كم كانت تنبض الحياة عند حبيبتي حركة، حين لا ينام تفكيري، أشعر أنها توقدني، تعاتبني، ترجني رجا وتسأل: أين أنت حبيبي؟ أستيقظ من نوم موت الغفوة، وأنظر بذاكرتي الحاضرة فتسقط دمعة حبيبتي نقطة نقطة على مرمى ركبتي التي ألفت النوم عندها”

يرى إيثري أن زمن عطر حب الوجع يبقى خالدا، ولن يمزق أبدا صورة الذكريات التي تجيء ولا تؤدي، يعتقد بالجزم أن تبقي الذاكرة نشطة ولا تحتاج إلى من يستفزها للكلام. كان مرارا إيثري حين يسيح به التفكير عمقا في معترك رمال الحب المتحرك بالشوك، يستل سيجارة شقراء ويدخنها بلا نار حرائق، فقد كانت حبيبته تمنعنه من التدخين، وحرق نبض الحياة.

 يقول إيثري:”لا أدري أهي باسمة الآن في ليلة ميلادها أم الدمع أبكاها لتصير أجمل نساء العالم؟ لا أدري كم المسافة في المكان والهروب في الزمان قد يوصلني نظرة ناظرة عند وجه حبيبتي، والتي أسميها في السر بالوجع الجميل”. لكن، حب الوجع قد يكون باقة ذابلة، قد يتجدد برش مياه الأمل. قد يكون في وجع الحب مثقال ذرة آهات يحملها القلب مثل حكايات الأزاهير. لكنها، الأقدار تأتي بما تشتهيه شقراء خصال الشعر حين كتب إيثري صورتها على قلبه ثم لم يمزقها. حين يتذكر إيثري حبيبه تغمره كعادتها بأمطار العيون، فيقف تحت رذاذ المطر بلا مظلة، ويسميها بالريحانة الموجعة.

About محمد الفاسي