من زمن الموت والحب…لن أنساك أبدا…
محسن الأكرمين.
المـــــــــــــــــــــــــــــــــوت:
تصرخ بأعلى صوت القهر والغبن، تصرخ في وجوههم لا تميز ملمح أحد من بينهم. كانت قد قفزت عند خط انفعالية الهستيريا الطافحة، كل من يتواجد في القاعة كان يتابع المشهد ولا يجرؤ على النبش ولو بكلمة يتيمة تقلل من حنقها الاضطرابي، الكل يركبه الحزن وتلحظ العيون تسيل بالدمع الممطر ولا قدرة على الكلام إلا بترديد (لا حول ولا قوة إلا بالله). كان الصوت المؤلم يسيطر على فضاء غرفة الانتظار استعمارا. كان صوت التهيج والبكاء يسمع من بعيد، ومن وصل إلى مسامعه بدأ يتجه صوبه لاكتشاف، ما الحدث؟
قرب غرفة الإنعاش، وفي تلك المصحة حدث التجمهر غير المتوقع في الزمان والمكان، وباتت صالة الانتظار دار عزاء، كانت نهاية التنفس الآلي بالموت لطفل الأم. أمام عيونها تم فصل آلات دعم الحياة عنه، بوقوفها قربا من الطبيب استمعت إلى آخر زفير آلي لابنها، مذيلة بعبارة الطبيب (إنا لله وإنا إليه راجعون)، حينها لم يمتلكها الحزن من صدمة الصدفة البئيسة، ونهاية الحياة الفانية لابنها. حينها ابتسمت وعقلها مشوش بين مشاهد الحياة والموت وقالت:”واش صافي انتهى الألم بالموت”. لم يقدر الطبيب عن الإجابة، بل أسندها جلوسا على كرسي وانسحب. لم يقدر الطبيب أن يقر لها علانية أن المرض انتصر على جسد ابنها وابتلع طاقته الحيوية، لم يستطع حتى أن يحرك رأسه “نعم، انتهى الألم” بالموت.
بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي// فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي… كانت تلك كلمات الأم بالاستعارة، وهي ترثي ابنها، وتلعن قسوة قلب الموت، كانت تود أن ترمي المنايا رصاصا قاتلا بلا رحمة و لا رأفة ، كانت تحس بأنها اليوم قد أهدت الثرى ما تبقى من كبد جسدها، كانت تردد بعض كلمات في تيه مستمر، والسعي ذهابا وجيئة بين موجهات عوالم العالم الأربعة. كانت تتساءل عن عِزَّةَ المُهْدَى و حَسْرة المُهدِي.
في منتهى الركن المنزوي طلعت عليها امرأة شديدة بياض الثياب،لا أثر لعنف الحياة على ملامحها. اقتربت دنوا من الأم الحزينة، حينها توقف الصراخ الفوضوي، استرجعت الأم أنفاسها المتقطعة بالتردد، حين كادت المرأة بانتهاء مواعظها الدينية شدت يد الضغط على وجه الأم وهي تقول:” انظري إلى جوانب الجمال الجانبي عند ابنك…”. كل من في القاعة علم صك الحديث، فيما الأم الأليمة فقد استرجعت وعيها الفوضوي وسقطت أرضا وقد أغشي عليها.
الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــب:
من كلام المرأة التي لا يرى من شعرها الشديد السواد أثر، قد اكتسبت الأم الأليمة مناعة ضد الحزن، اكتسبت مضادا حياتيا ضد تعريف الموت وسر بقاء تخليد الحب والجوانب الايجابية في متسع ذاكرتها. ابن الحياة رحل وارتحلت روحه علوا، حين نزعت عنه تلك الآلات الداعمة للحياة، كانت الأم تسأل أن يعطوها إياه نظرة في وجهه الفاقد لوعي الحياة، كانت تنادي( أعطوني ولدي)، كانت تسترجع نكسا سنوات حب الثدي من الحبو حتى الاعتدال وانتصاب القامة مشيا، كانت لا تؤمن بالموت المجرد من القلب، ولا حتى من التفكير، بل كانت تؤمن برحمة الوجود وبانتهاء الألم المستديم، وحضور بقايا جمالية الحياة.
لن يعيد العويل ولا البكاء تلك الروح التي تسبح سماء مع آخر دمعة ودخان الشمعة التي انطفأ نورها. وفي منتهى ابتعاد المرأة ذات البياض في آلتحاف اللباس، أدركت الأم أن الحب جزء من الإيمان، تعلمت أن الحياة ليست إلا حلما بين فزع الكوابيس المنغصة وفرح ملونات الحياة البهيجة. لم تعد القاعة يحتلها منشأ الاضطراب النفسي للأم ، بل بدأ الصمت يسود المكان وتفرقت الأرجل الطفيلية تباعا. من متابعة الحياة قدما فقد احتل نفس سرير الموت حياة نفس آلي لا زال يحرك صدر طفلة تغيب عن الوجود، نظرت الأم فعلمت أنها ليست الوحيدة التي يمكن أن تكون قد فقدت ابنها موتا. عند ترجلها بالبطء من المصحة كانت كل جوانب الجمال الايجابي عن ابنها يصاحبها في أدراج النزول، كانت تذكر يوم خروجها من مخاض الولادة وهي تحمله مسندا على صدرها، والآن تتركه خلفها وحيدا بلا حركة، وعند حركات انسحابها كانت تردد بالاستعارة :عجبتُ لقلبي كيف لم ينفَطِرْ لهُ // ولوْ أنَّهُ أقْسى من الحجر الصَّلدِ.
الزمــــــــــــــــــــــــــــــــــن:
يقولون أن الوقت بالجنة يمر مثل ارتداد طرف العين بلا حزن ولا ألم دموع وبلا أحداث فزع، ويقول الذي عنده علم من الكتاب أن وقت الجنة نزهة في الملكوت الرباني الإبداعي على الدوام. لكن، تمر الأيام الدنيوية بحرق الساعات وتقسيماتها ومداولتها بين الناس بالفوارق في الفرح والحزن، تمر أيام عمر الحياة ولازالت المرأة الحزينة عن فقدان ابنها تتعلم الحكمة تلوى الأخرى، توصلت أخيرا أن الوقت يمكن أن يصنع أطفالا ليس من نسيج الرحم الولود نفسها، يومها قالت” أطفالك ليس طبعا أن يأتوا منك لزوما، بل أن يمروا من تجربتك في الجوانب الجمالية الإيجابية التي تبقى ثابتة في المخيلة والذاكرة “.
لكنها حين تصافحت يدا بيد مع الموت، كانت حازمة في مخاطبة الموت بلا وجع في الكلام، حين قالت:”أعد لي يدي، لا تمسك بها دواما، أنت من تغترف دم الموت نهما متزايدا، ليس لك أي مبرر يجعلك تمسك بيدي وأنت من أخذت روح ابني أمام عيوني، سأبقى وحيدة أعيش مع فرحته لا موته، وأنتَ الموت وإن أُفْردْتَ في دار وَحْشَةٍ // فإني بدار الأنْسِ في وحْشة الفَرْدِ. هل تريد أن تفسد عني حتى راحة وحدتي؟ أنت حِمَامُ المنايا أنجزت وعد الموت، فاذهب عني بعيدا !!! اذهب بالبعد رغم أنك جزء من طبيعة نهاية الحياة، فأنا لا أهتم بلحظات احتساب الوقت الميت… لأن هدية السماء هي التي قد أخذتها مني عنوة ولا أمتلك سلطة العناد على التمسك بها بالنواجذ”.
تقول المرأة والعهدة على عاتقها:”لأول مرة رأيت الموت يبتسم ويتأسف خجلا، ويتراجع في مشيته وراء. للمرة الثانية أحس أنني حطمت قلبه الصلد وبات هو الألم بعينه، ويمكن أن يكون قد بكى خفية من عيوني. للمرة الأخيرة أدركت حقا أن موت السببية هو الأمر الآخر المختلف على أن تكون (أنت) ملك الموت المتحكم في نهاية الأنفاس !!! يا له من سجال بين الموت والحياة و التحكم في زمان التمكين والممكن!!! يا له من حجم قوة انفجار في تكاثف الوجود حين تنحصر مساحة الجمالية !!!