“سيدي فرج خالي والديور عامرين” .. فاس و الكل في فاس

مثل شعبي لطالما سمعناه من أفواه الجدات الفاسيات مشيرات أن المنازل أضحت مليئة بالحمقى بينما سيدي فرج أحق بهم. لعل القارئ عندما يقرأ الاسم قد يظن أن سيدي فرج من الأضرحة التي تأوي الحمقى وتحتجزهم بدعوى أن بهم مسا من الجن أو غيره. لكن على العكس من ذلك، فسيدي فرج مارستان من أقدم المستشفيات للأمراض العقلية والنفسية بالمغرب والعالم. خلف الحرم الإدريسي وبين سوق الحناء والعطارين ينتصب المارستان شاهدا على التاريخ وحيطانه تحكي قصصا عديدة. يعود تاريخ تشييده و ترميمه إلى عهد المرينيين، فالسلطان أبو يوسف يعقوب المريني بناه حوالي سنة 1286 وقد تم تجديده في عهد السلطان أبو الحسن.


بني المبنى على الشاكلة الأندلسية المرينية التي لا تختلف والتصميم المغربي المتعارف عليه في الدور والمنازل، فهو مكون من طابقين أرضي وعلوي يضم الأول ثمانية عشر غرفة كانت مخصصة في ما مضى لعلاج المرضى النفسيين من الذكور، بينما الثاني يضم اثنين وعشرين غرفة خاصة بالنساء لعلاج المريضات ولسجن المارقات أيضا في غياب سجن نسائي بالحاضرة الإدريسية. الغرف مفتوحة على العرصة، وكلها دون باب يغلق سوى عصى خشبية غليظة تقسم الباب نصفين، أما بالداخل فالسلاسل تنزل من أعلى السقف ليربط فيها كل من لا يتحكم في نفسه ويبقى تحت مراقبة حارس يأتي له بالأكل والشرب ويتكفل بنظافته البدنية.

تتضارب الآراء حول أصل تسمية المارستان بهذا الاسم في ظل غياب أي ضريح للمدعو سيدي فرج، فصاحب سلوة الأنفاس يخبرنا أنه كان يسمى باب الفرج حتى طاله التحريف من العامة ودعوه بسيدي فرج، بينما يرى “Mazel” أن السلطان أبو عنان المريني قد عين طبيبا أندلسيا اسمه فرج الخزرجي هو من كان مكلفا بالمارستان سنوات ذروته حينما كان يستقبل الأطباء ليدرسوا أصول الطب بكل أنواعه، إلى جانب تطبيب المرضى من بشر وطيور كاللقلق وهو الطائر الذي نسجت الفاسيات حوله قصة أقرب إلى أسطورة كان هو بطلها وسببا في بناء المارستان. فالرواية تقول أن لقلقا سرق ذات يوم حلية ذهبية من قصر السلطان وتوجه بها نحو عشه الذي كان على حائط الحرم الإدريسي المتقادم حيث المارستان الآن ووضعها في عشه. رأى الجيران بريق الذهب فعرفوا أنها إشارة أن هذا الطائر يود بناء وقف خاص به في ذلك المكان فتم بيع الحلية وبناء المارستان، والذي بقدرة قادر كان يستقبل كل لقلق مكسور الجناح أو يحتاج إلى عناية فينزل بالفناء يشرب من ماء النافورة ويتلقى العلاج اللازم من الأطباء الذي لم يكونوا يتوانوا عن ذلك.

مهما اختلفت الروايات فلا اختلاف أن المارستان كان من أكبر المستشفيات بفاس والمغرب الكبير، حتى قيل أنه من المحتمل أن يكون النموذج الذي اتخذه الأب “Gilbert Jofre” عند بناء أول مستشفى للأمراض العقلية بفلانسيا الإسبانية سنة 1410. لم يأت اختيار المكان لتدريس الطب وإيواء المرضى عبثا، فالمارستان بحكم قربه من سوق الحناء -المادة المباركة التي كانت تستعمل في الطب القديم- ومجاورته للعطارين بكل أعشابهم الطبية ووصفاتهم النادرة، كان المارستان كالمستشفى العصري والمرافق المجاورة عبارة عن صيدلية حقيقية تزود الطلبة والمرضى بكل ما يحتاجونه، إضافة إلى العناية الروحية لضريح مولاي إدريس المجاور.

يتكلف بالمارستان,إضافة للحرس والأطباء فقيه وموظفين عمل الحسن الوزان بينهم، وكذلك طباخين، إلا أن السابقة أن المارستان كان يضم فرقة موسيقية تقوم كل جمعة بعزف نوبة من النوبات الأندلسية لتهدئة المرضى والترويح عنهم، وهي عادة قيل أنها من ابتكار فرج الخزرجي وقد بقيت إلى حدود القرن التاسع عشر.


كما أسلفت الذكر فالمارستان كان يضم المرضى بكل أنواعهم واقتصر بعدها على النفسيين، إلا أنه كان يستقبل أيضا النساء المسجونات من طرف الباشا ويرسلهن إلى الطابق العلوي ليكن تحت تصرف العريفة التي تكبل أرجلهن بسلاسل حديدية تتيح لهن التحرك بالمبنى والمساعدة بالأعمال. فضلا عن العلاج فإن أحباس سيدي فرج كانت تقوم ببعض الأعمال الاجتماعية كمساعدة المعوزين وإسعاف الفقراء المسجلين عند العامل، والمساعدات عبارة عن مبلغ مالي يصرف يوميا للمعوزين إضافة إلى شبه حساء عمومي مع غذاء وعشاء مكونين من الكسكس وبعض اللحم، وهو لمن لا دور لهم مع بعض الملابس من حين لأخر. وتتكلف بمراسيم جنازة محترمة لهم هم وكل من يتعالج بالمارستان وتفيض روحه داخل أسواره، إذ أن أغلب المرضى بالمستشفى كانوا ممن لا أهل لهم أو من خشي أهلهم من حمقهم. فالعادة الاجتماعية بفاس والمغرب تلزم الإنسان بستر مرضاه حتى ولو كانوا حمقى، وتعيب على من حمل شخصا من عائلته إلى المستشفى.

ككل الأشياء الفانية بهذه الحياة، فالمارستان بناه أبو يوسف موقفا عليه أملاكا كبيرة وجدده أبو الحسن بينما عرف ازدهاره مع السلطان أبي عنان المريني، الذي جعله كملحق لتدريس الطب ومكانا صالحا للمجازين من القرويين في الطب أن يعملوا فيه ويشاهدوا تشخيصات واقعية. ومع الأسف فالمارستان عرف انهيارا مع بيع أحباسه أيام السلطان أبو عثمان خلال القرن الخامس عشر لتمويل الجيش في الحرب، وهو ما رفضه أهل فاس واحتجوا من أجله إلا أنهم لم يستطيعوا أن يمنعوه، فبدأ المارستان ينهار رويدا رويدا وهو ما عاصره الحسن الوزان الذي وصف تدهور حاله وحال مرضاه وسجيناته اللواتي اضطررن للعمل أحيانا في البغاء تحت رقابة العريفة.

لم يستطع المارستان أن يعيد القرن الذي عرف فيه ازدهاره وبقي بين مد وجزر تتقاذفه أمواج الزمن، فتارة يعنى به السلاطين وتارة ينسونه إلى ما قبل سنوات الحماية عندما وصفه المستشرقون ووصفوا حالته المتدهورة التي جعلت الحراس يحذرون المارة من عدوانية المرضى المطلين من الكوة الصغيرة. رغم كل هاته الظروف فإن المارستان بقي صامدا أمام ضربات الزمن إلى حدود سنة 1932 عند بناء مستشفى الأمراض العقلية ببرشيد فشاهد الأجداد الفاسيون انهيار معلمة من معالمهم الحضارية الخالدة وهي تتحول مع دخول جنود الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1942 إلى فندق ميريكان وأصبح قيسارية للملابس والأواني بينما انتقل سيدي فرج الجديد إلى نواحي باب الخوخة سنة 1949 حتى ظهور مستشفى حديث للأمراض النفسية والعقلية بفاس سنة 1982.

بقلم: إلياس أقراب

عن موقع :fes-ency

About fnadmin