مقال رأي – في الحقيقة، لقد تراكمت الأسئلة الاجتماعية الحارقة في السنوات الأخيرة في هذا البلد الكريم، ورغم أهميتها البالغة والمصيرية لعموم المواطنين، فقد بقيت على الدوام بدون إجابات شافية كافية أو تكاد، وهي في الحقيقة كالنار تحت الرماد، لا تنسى وإن خبت جذوتها وتوارى لهيبها وبدت وكأنها قد طواها الزمان وما طواها ولكن الدواهي يزيح بعضها بعضا. أزمات متتاليات وحكومات متعاقبات ولا شيء في جوهر الجوهر قد تغير إلا بالقدر الذي تسمح به مقاربة الضبط الاجتماعي والتوازنات الماكرو اقتصادية التي تحرص عليها المبادرة الرسمية وما تسمح به أحيانا من فتاة مادي أو معنوي وإن كان بعيدا عن مطالب المحتجين ومعانات المقهورين، فأزمة “كورونا” لم تغيرنا.. وجواز التلقيح لم يحررنا.. وارتفاع الأسعار وغلاء المحروقات قد ألهبتنا رغم الصراخ ونهبتنا رغم الهشاشة على سبيل المثال.
اليوم، يأتي حراك الأساتذة الهادر، ليملأ شوارع العاصمة الرباط بحشود جرارة.. غاضبة.. صاخبة.. بعدما ملؤه من أبواب المديريات الصماء والأكاديميات العاجزة المتفرجة، وبعدما هجروا من الأقسام الفارغة والمؤسسات الكسيحة، وبعدما عطلوا فيها من دراسة التلاميذ والتلميذات، على خلفية النظام الأساسي الجديد في منظومتهم التعليمية والذي -حسبهم – سيرتهن لاجحافه وضرره مستقبلهم المهني الغامض ووضعهم الاجتماعي المتردي ككل، وبالتالي، وضع المدرسة العمومية المعطاءة والرهان التعليمي كمدخل وحامل تنموي فعال في كل بلدان العالم. ترى، ما لذي حرك أساتذة المغرب في هذا النظام الأساسي الذي يصفونه بنظام المآسي؟، وهل هو المحرك الحقيقي الوحيد أم القشة التي قصمت ظهر البعير؟.
يقول السوسيولوجيون، ليست الأسباب الظاهرة هي التي تحرك الأشياء، وإنما هي واجهات لظواهر كامنة وأخطر بمثابة كرة الثلج المتدحرجة في اتجاه فعل وتفاعل مجهول، وفعلا، يجيب الأساتذة أن الذي حركهم هو “الحكرة” .. هو “الضغط”الزائد.. هو “المقاربة التأديبية” في زمن الحقوق.. هو “العطاء والتعويض” لمن لا يستحق على حساب من يستحق.. هو السياسة المتجذرة لفرق تسد.. هو المس بالقدرة الشرائية.. هو خنق الظروف المهنية فوق اللازم.. هو تعميق الازدراء المجتمعي اتجاه معلم ومربي الأجيال.. هو الإيقاع بالجميع في متاهات لا أول لمخاطرها ولا آخر.. أقلها متاهة “السن” وإشكال تسقيفه في 30 سنة للمتعاقدين.. و63 سنة للمتقاعدين.. وفي كل منها أضرار صحية ونفسية واجتماعية قد تصل حد حرمان البعض من ولوج أسلاك الوظيفة العمومية أو الموت بطئا في أتونها دون موجب حق؟.
وأي قراءة سوسيولوجية أولية في بانوراما هذا الحراك التعليمي لأساتذة المغرب، تقول أن حراك الأساتذة الهادر هذا يأتي حلقة جديدة في سلسلة الحراكات الوطنية المتواصلة والمتصاعدة، رغم ما يظنه البعض من أنها اختفت اختفاء قسريا ولا يمكن أن تقوم لها قائمة في مثل هذه الظروف التي وكأنها تتسم بكثير من الضبط وكثير من عدم الاكتراث، ولكن، بعد حراك 20 فبراير.. جاء حراك الريف.. وبعده حراكات “كورونا”، وبعدها حراك المسيرة المليونية تضامنا مع المقاومة في غزة ومناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، بما يعطي الدرس الواضح الفاضح لكل من يهمه الأمر، بأن السياسي والاجتماعي في هذا البلد حي وحيوي، ويستحيل فيه إقبار الإرادة الشعبية للمواطنين، ودرس أبلغ للمناضلين اليائسين باستمرار جدوى العمل الجماعي وإمكانية التعبير والمشاركة في التغيير نحو غد أفضل للجميع ولهذا البلد الذي يسع الجميع ويحتاج على الدوام لجهود الجميع وصدقهم وإخلاصهم.
قلت، أزيد من 100 ألف أستاذ وأستاذة مضربون في شوارع العاصمة الرباط، 50% منهم ولأول مرة من الإناث، معدل متوسط سن المدرسين بين 28 و30 سنة، ومعدل سن المؤطرين للحراك من التنسيقيات لا يتجاوز 45 سنة، ببروفايلات نضالية وتجارب مهنية غنية ومهارات تواصلية فائقة..، على عكس، شيوخ النقابات المتقاعدين والمفرغين، وهم يخططون دون خجل ولا وجل لمن يمارس المهنة وهم لا يمارسون؟. أما جيل الأساتذة المضربين وحسب شعاراتهم ونضالاتهم ومساراتهم.. فهم من الجيل الذي لا يهتم لا بالأداء ولا بالاقتطاع، وأصلا، لا يعمل بعضهم أكثر من ساعتين أو نصف يوم على الأكثر، أو تجده يعمل في مؤسسة خصوصية إلى جانب دوامه العمومي، أو مشروع خاص كان يملأ به أيام عطالته السوداء ولازال يستثمر فيه، أو من المنفتحين على العمل عبر شبكة الأنترنيت ومواقع التواصل والأرباح حسب جودة المحتوى وقدر الجهد والرواج؟، هذا بعدما كان مجمل رجال ونساء التعليم يعطون لتعليمهم بقلبهم وعقلهم وكلهم كل شيء، ولا يكاد يعطيهم هو بالمقابل حتى ما يكفيهم فبالأحرى ما يغنيهم، مما دفع ببعضهم إلى المسار الأول والذي سيتسع يوما بعد يوم طالما تعقدت المعضلة وبقيت دون حل منصف وعادل وعاجل؟، لأن كل هذه مؤشرات تستوجب تغيير القرار في بلد تتغير فيه القرارات على خلفية أحداث فردية، كقانون “أمينة” وقانون “ثابت” نموذجا، فما بالك بالأحداث الجماعية كحراك أساتذة المغرب الذي تدعمه كل القوانين وفي مقدمتها “قانون الإطار” الذي أصبح – على كل حال – ملزما للجميع؟.
نتائج مبهرة حققها هذا الحراك السلمي الحضاري رغم كل شيء، أولها انخراط الشغيلة التعليمية في الاضراب/الحراك بشكل واسع وغير مسبوق تستحيل كل محاولات التعتيم والتنقيص منه؟، إيصال قضايا الأستاذ والتعليم عموما إلى كل فئات الشعب الذي تعاطف معها بشكل واسع، وعلى رأس أولاءك التلاميذ والأمهات بوقفاتهم ومسيراتهم التضامنية المستمرة. بل إن وزير القطاع وكأنه أسقط في يديه وأصبح مهمشا.. صامتا.. لا يدري – مهندس النموذج التنموي الجديد – لا ما يقدم ولا ما يؤخر، وهو قد فقد السيطرة على الوضع وأصبح رئيس الحكومة هو بنفسه من يقود الحوار مع النقابات، هذه النقابات ذاتها أصبحت ذليلة معزولة ومتجاوزة لا تطلب أكثر من حظ البقاء، أمام زخم التنسيقيات الوطنية التي تكونت في رمشة عين عبر منصة “واتساب” دون كل البيروقراطيات الشكلية المعهودة والمتجاوزة، والتي زاد من قوتها كون النظام الأساسي جاء موحدا بين جميع الفئات، فوحدها وهي التي طالما عانت من وهن التفرقة وضعف التشرذم ؟.
وأخيرا، قد يتساءل المرء، لماذا لا يحدث مثل هذا أو حتى عشر معشاره في معضلة ارتفاع الأسعار ولا معضلة غلاء المحروقات.. ولا التطبيع.. ولا المدونة.. فلو خرج فقط في كل معضلة اجتماعية وفضيحة سياسية ربع ما خرج في حراك الأساتذة لكان له طيب الأثر ولا أراح المغاربة من كل هذه المعضلات وأخطارها الراهنة والمرتقبة، وجوابا على السؤال المشروع والوجيه، يبدو أن الحراكات التي يستجاب لها أكثر هي الحراكات القطاعية/المهنية/الفئوية التي تتعاطف معها فئاتها الاجتماعية وهي مستعدة للتضحية من أجلها إلى أبعد الحدود وبشكل مكثف ومستمر وممتد عبر كل أبناء القطاع/الفئة.. خريجون معطلون.. أطباء الغد.. أساتذة متعاقدون.. عمال شركة.. وهكذا، أكثر من أي شيء آخر عام ومشترك على أهميته ولكنه قد يتأدلج بسوء أو حسن نية فيفقد مقومات الصمود والنجاح.
الدرس إذن، من أجل عمل جماعي وتغيير مجتمعي، لابد من تجاوز الإطارات المستهلكة التي أصبحت عقيمة أو تكاد، والتي أصبح وجودها في حالة البعض مقدما على الملفات والقضايا؟، تغيير أو تعزيز وسائل العمل في الإطارات التنظيمية المعقدة باستثمار وسائل التواصل الاجتماعي التي يصطلح عليها منذ الربيع العربي بوسائل “الميدان” على افتراضيتها. التركيز على الفئات المعنية وتكثيف التواصل معها ومع غيرها؟، النضال الميداني والقانوني السلمي والمحاور باستمرار..؟، وكل هذا سيغير عقلية الاطار النضالي حتى يدرك أن الموضوع قضايا وملفات وليس مجرد وجود وواجهات، بل وسيغير وبالأخص عقلية المسؤول حتى يدرك ألا مناص من العدل والانصاف والاشراك الحقيقي للمعنيين كما ينص على ذلك الدستور في التشخيص والتقييم والتقويم والقرار..، فقد حضر إلى المؤسسة التعليمية خلال الحراك، كل من السيد المدير.. والحراسة العامة.. والتلاميذ والتلميذات.. ولم يحضر الأستاذ، فلم يكن شيئا.. فكيف لا يستحق أي شيء؟.
بقلم : الحبيب عكي
عن موقع: فاس نيوز