الصوم جزء من نظام كامل للحياة 1/2
عبدالإله الوزاني التهامي
“صوموا تصحوا”، كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، ثقيلتان فعلا بحجم أهمية الصحة الجسدية والنفسية والروحية، المستخلصة منهما، حيث تخاطبنا هذه المدرسة -مدرسة الصيام- ونحن كيانات فوق أرض واحدة تظلنا سماء واحدة، بخطاب “ها قد جاءكم المطهر” فهل من متطهر ؟!، تخاطبنا هذه المدرسة محدودة الزمن عظيمة الشأن أن “يا من باع كل شيئ بلا شيئ وتاه بلا بوصلة من أجل شيء وخسر كل شيء، أيقظ همته واشحذ عزيمتك واغتنم نفحات إذا ذهبت لن تعود مثيلتها أبدا”.
أجل، إن رياضة الأجسام وتدريبها على أنواع التمارين، ليست إلا وسيلة لتقويتها وتهيئتها لحسن القيام بوظيفتها في الحياة العملية، إذ أنه ليس التدريب على الرمي واستعمال السلاح وسيلة للتسلي أو غاية في ذاتها، إنما هو وسيلة لرد الاعتداء والدفاع عن النفس والوطن. ليس الجسد وحده هو المقصود برسالة الصيام، وكذلك العبادات ليست غاية في ذاتها، وإنما هي نوع من الرياضات الروحية فرضها الله لتعالج النفس من أدرانها وتربيها وتعدها وتسمو بها لتحقيق أعلى مرامي وغايات الإنسان.
وقد جاءت هذه الفكرة واضحة في القرآن الكريم، ولم يكن الانحراف عن هذا الفهم إلا مظهرا من مظاهر الانحطاط في بعض العصور.
إن الآية التي فرضت عبادة الصوم في الكتاب المبين، وردت في سورة مدنية هي (سورة البقرة)، وإذا أردنا أن نفهمها حق الفهم وجب علينا أن نقرأ ما سبقها وما تبعها من الآيات، حينئذ تتجلى لنا حكمة هذه العبادة، وتتبين لنا النتائج التالية:
_لقد تقدم آية الصوم في السورة نفسها آيات منها قوله تعالى:
“يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان” سورة البقرة الآية 168.
وبعد ذلك بثلاث آيات قوله تعالى أيضا: “يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله” سورة البقرة، الآية 173.
فهذه الآيات تدل على أن الصوم ليس هو الأصل في حياة الإنسان، بل الأصل إباحة الطعام، وإن قاعدة الفطرة الإنسانية السليمة هي في الأخذ مما سماه الله الطيبات، وجعله مستحقا لشكر الإنسان له، ومن هنا نستنتج أن الكف عن الطعام أعني الصوم استثناء من القاعدة، ودواء مؤقت لعلة تستوجبه، ولحكمة تقتضيه، وأنه مقيد في حدود العلة أو الحكمة التي من أجلها فرض ووضع في موضعه من النظام الإنساني.
ولذلك جاء في آية الصوم النص على تحديد زمنه “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات”، البقرة
آ 182.
ولذلك كان صوم الدهر أمرا مكروها في الإسلام، وقد نبه الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك صراحة في قوله :”من صام الأبد فلا صام ولا فطر”، وفي رواية أخرى “لا صام من صام الأبد”.
لقد ورد قبل آية الصوم ببضع آيات آية تنص على قاعدة عامة في العبادات، وأنها ليست مقصودة في ذاتها، بل هي جزء من نظام عام، ولا قيمة لها في ذاتها إذا أهملت بقية أجزاء هذا النظام وعطلته.
قال تعالى :”ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولائك الذين صدقوا وأولائك هم المتقون”. البقرة آ 177.
تحدد هذه الآية -حسب ما اطلعنا عليه- حقيقة البر وتنفي ما يفهمه الناس من أن البر والصلاح مجرد إقامة بعض الشعائر، فتقول أن البر ليس بالتوجه اتجاه وجهة معينة، إشارة إلى استقبال القبلة في الصلاة، وهذا المعنى ورد في آيات أخرى كقوله تعالى :”لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم” الحج آ 37، وقوله:”أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله” التوبة آ 19.
ثم تعدد الآية عناصر البر وهي: 1- الإيمان بالله وحسابه وما يتبع ذلك،
2- بذل المال في وجوه عديدة،
3- إقامة الصلاة،
4- الوفاء بالعهد،
5- الصبر في كل الأحوال وخاصة في الشدة والحرب.
وقد ختمت الآية بما يؤكد معناها وفكرتها الأساسية، ذلك أنها وصفت المستجمعين لهذه العناصر بالصدق والتقوى على سبيل الحصر، وكأنها نفت هذه الصفة عن غيرهم ممن يكتفون بمظاهر العبادات دون أسرارها.
وأما ما جاء بعد آيات الصوم من آيات، فقد تضمنت أمورا اجتماعية خطيرة، الأمر الأول منها: النهي عن أكل الأموال بالباطل، ويدخل تحت هذا العنوان جميع أنواع المظالم المالية :”ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون” البقرة آ 188.
- والأمر الثاني: القتال في سبيل الله ردا للمعتدين، “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” البقرة آ 190.
وحماية لحرية العقيدة حتى لا يفتن المؤمن عن إيمانه، “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين” البقرة آ 192. - والأمر الثالث: الإنفاق في سبيل الله، “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين” البقرة آ 195.
والهلاك هذا على ما فسره كثير من الصحابة هو البخل عن الإنفاق في سبيل الله، وخاصة في الجهاد ومقاتلة العدو.
يتبع.
عن موقع: فاس نيوز