مقال رأي – لقد أثبتت الوسائل البديلة في العصر الحالي أهميتها في حل النزاع، مرد ذلك ماتوفره من فعالية في إيجاد حلول رضائية بين الأطراف المتنازعة، بحيث أنها تتميز بتحقيق عناصر الرضائية والسرعة والمرونة في بحث حل للنزاعات المطروحة، وهي الأهمية التي تشمل مختلف أنواع النزاعات منها الأسرية، وهو الأمر الذي دفع أغلب التشريعات إلى تكريسها؛ والمغرب بدوره حرص على إدراج هاته الوسائل على مستوى منظومته التشريعية شأنه شأن باقي النظم التشريعية في هذا الباب.
ومن هذا المنطلق، تجلت أهمية الوساطة الأسرية باعتبارها من الآليات المتطلع لاعتمادها في أفق إنقاذ الأسرة،خاصة في ظل المعيقات التي تعترض مسطرة الصلح وتحول دون تحقيق الغاية التي أنشئت من أجلها وهي الحفاظ على استقرار الأسرة بتعزيز تقنيات التفاوض البناء وصولا لحل مرضي لجل أطراف النزاع، فقد أثبت الواقع العملي أن هذه الآلية “الصلح” لم تحقق النجاح المأمول لأسباب عدة إن على مستوى كيفية تعامل الزوجين المتخاصمين مع المسطرة أو مدى توفر القضاء على الإمكانيات وكذا مدى تفعيل المؤسسات المرصدة للصلح مما شكل ولازال حافزا لضرورة اعتماد تقنية الوساطة كمقاربة حمائية للأسرة في بعدها القانوني والواقعي، وسعيا للتخفيف من أزمة العدالة التي لا تقتصر على المغرب فقط بل عدة أنظمة قضائية ، يثار التساؤل حول إمكانية الرهان على الوساطة كآلية ملائمة لحل النزاعات في جل الميادين ومنها الأسرية نظرا لما يميز هذه الوسيلة من رضى تام بالحلول التي تساهم في بلوغها؟ وهو الإشكال الذي سيتم تحليله في هذا المقام باستحضار حصيلة التشريع الأسري في مواجهة التفكك الأسري، وطبعا باستحضار الدور الفعال والتوجيهات الملكية الحريصة على صون أمن الأسرة المغربية في أكثر من مناسبة كان أحدثها الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 23 لعيد العرش.
1*ماهية الوساطة كتقنية لفض النزاع:
تعد الوساطة من أهم الوسائل البديلة لحل المنازعات بواسطة شخص ثالث محايد، يسعى إلى مساعدة الأطراف للوصول إلى حل ودي للنزاع بينهم، واعتماد الوساطة كآلية بديلة لفض النزاعات خاصة الأسرية منها تبرره العديد من المميزات التي تطبعها كالسرعة والسرية والمرونة والحفاظ على العلاقات الإجتماعية بين أطراف النزاع، ثم مشاركة الأطراف في صنع الحل، إضافة لانخفاض التكلفة مقارنة بالدعوى القضائية.
والوساطة كآلية بديلة لحل النزاعات المتعلقة بالأسرة قد تتخذ شكل وساطة اتفاقية أو إرادية بناء على اتفاق تلقائي لأطراف الخصومة، كما قد تكون وساطة إجبارية أو قضائية، أي تباشر من طرف القضاء وتحت إشرافه.
2*أي أسس وأي رهان يمكن عقده على آلية الوساطة صونا للأمن الأسري المغربي: وجهة نظر في الموضوع:
أ-الدور التأسيسي للخطب الملكية السامية في حماية المصلحة الفضلى للأسرة
رغم كون المنظومة القانونية المغربية لازالت تفتقر إلى صدور قانون تنظيمي لحد الساعة منظم للوساطة الأسرية، إلا أنه وبالرجوع لمدونة الأسرة نجدها قد استعملت في ديباجتها لفظ الوساطة استنادا للتوجيهات الواردة في خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية السابعة والتي اعتمدت بمثابة ديباجة لمدونة الأسرة منها ما جاء في النطق الملكي السامي:
“سادسا: جعل الطلاق حلا لميثاق الزوجية(…) وبتعزيز آليات التوفيق والوساطة بتدخل الأسرة والقاضي”.
وهو ما أكدت عليه الخطب الملكية السامية في مناسبات عديدة، إذ لطالما شكلت إطارا لمجموعة من التوجيهات والمبادرات، وانطلاقة للعديد من الأوراش الوطنية.
حيث أكدت الخطب الملكية غير ما مرة على ضرورة تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة والتحكيم والصلح، من بينها الخطاب الملكي السامي الموجه من قبل جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة الذكرى السادسة والخمسين لثورة الملك والشعب بتطوان في الخميس 20 غشت 2009، وهو ما تم تأكيده في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة بمراكشبتاريخ 21 أكتوبر 2019، بحيث مما جاء فيه:”سبق أن أكدنا في خطابنا بمناسبة ثورة الملك والشعب لسنة 2009 على “ضرورة تطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح”، وهي التوجيهات التي ضمناها رسالتنا لمؤتمركم هذا في دورته الأولى، حيث دعونا فيها إلى مأسسة الوسائل البديلة لحل المنازعات.”
ودائما في سياق حفظ أمن الأسرة المغربية يجدد جلالة الملك محمد السادس نصره الله التأكيد على ذات المعطى من خلال الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 23 لعيد العرش، حيث حرص جلالته على التذكير بالإصلاحات التي شملت مدونة الأسرة مؤكدا الخطاب الملكي على أنه:
” وإن كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها.
ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء.
والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها.
فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال.
لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية.
كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك.
وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.
ليشكل الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 23 لتربع جلالته على عرش أسلافه الميامين توجيهات قوية مجددا للنهوض بمدونة الأسرة وتفعيلها،؛ وهو ما من شأنه أن يتأتى عبر تفعيل دور مجموعة من النصوص الغير مفعلة واقعيا كمؤسسة مجلس العائلة على سبيل المثال التي أعتقد شخصيا أنه لو تم تفعيلها لكان من شأنها أن تؤتي أكلها فيما يهم النزاع الأسري، وقد سبق تسجيل هاته القناعة في محطات علمية سابقة نظرا لمجموعة من الأسس التي تشترك فيها المؤسسة مع القناعات والخصوصية التي تحظى بها طبيعة النزاع الأسري وما يكتنفها من حرص أطرافه على حله عائليا.
إلى جانب تأكيد الخطاب الملكي في سياق الإشارة لضرورة تجاوز الاختلالات المطروحة على مستوى التشريع الأسري على أن يتم ذلك باستحضار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي حيث جاء في الخطاب الملكي: “ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك ، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية ، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح ، والتشاور والحوار ، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.
وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان ، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله ، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.
ب-نحو وساطة ملائمة لخصوصية المجتمع المغربي: وجهة نظر في الموضوع:
تأسيسا عل ما سبق، نرى أن كسب رهان تفعيل الوساطة الأسرية بالمغرب يحتم – إلى جانب استحضار الأسس المبينة أعلاه- مراعاة مجموعة من المقومات التي يمكن أن نعتبر من بينها ضرورة الحسم بداية في أي النوعين أنسب لاحتواء النزاع الأسري داخل المجتمع المغربي-بما يستدعيه ذلك من تمعن في خصوصية طبيعة العلاقات الأسرية ومكانتها بمجتمعنا المغربي- هل الوساطة ذات الطابع الاختياري أم الإجباري أم هما معا؟ إلى جانب طبعا الانفتاح على التجارب المقارنة الناجحة للاستفادة من الجانب التقني في تنزيل الآليات البديلة لفض النزاع، دون إغفال أو بخس الرصيد المجتمعي المغربي الزاخر حقه في باب التسوية الودية للنزاع، وباستحضار خصوصية المجتمع المغربي بالخصوصية التي تطبع العلاقات بين أفراده(انظر: سميرة خزرون، الوساطة الأسرية بين دواعي تكريسها في المنظومة التشريعية المغربية والشروط العامة لتفعيلها، مجلة محاكمة،ع:16/ سميرة خزرون، الصلح الأسري بين واقع النص القانوني وسؤال الفعالية، جريدة الأخبار، بتاريخ:2018/3/2) أملا في التوصل لتنظيم تشريعي فريد لوساطة أسرية مغربية، حتى تحقق الهدف المرجو منها والمتمثل في إيجاد حل للنزاعات الأسرية، غاية ذلك إصلاح وتذويب الخلاف وتقريب وجهات النظر، وجعل المتنازعين يبلغان معا الحل المناسب والمرضي لكلاهما؛ لذا نرى أن يتم التمهيد لها من خلال وساطة إجبارية قد تكون أكثر نجاعة وفعالية.
فالرأي أن يتم استحضار خصوصية العلاقات الأسرية داخل المجتمع المغربي -كما أشرنا- في البحث عن النموذج الأنسب للوساطة لحل النزاع الأسري وتحديد ضوابطها، مرد ذلك عوامل عدة أهمها :
- أن مفهوم الوساطة في بعض التشريعات المقارنة يشمل مرحلة ما بعد انقضاء العلاقة بين الوالدين(الطلاق أو الانفصال) في حالة أطفال خصوصا(سواء اتخذت صفة زواج أم لا) ، وهو ما يتعارض مع مفهوم الوساطة والصلح في ثقافة المجتمع المغربي، والذي مفاده أن الوساطة وسيلة لتحقيق الصلح أملا بالدرجة الأولى في الحفاظ على استمرارية العلاقات الأسرية(بين الأزواج و الأقارب ـ…) ومنها العلاقة الزوجية و بالدرجة الأولى قبل بلوغ مرحلة الطلاق أو التطليق والأسرة كما نعلم وفقا لشريعتنا الاسلامية وتشريعنا المغربي هي الأسرة الشرعية التي أساسها الزواج الشرعي، فوفقا لمدونة الأسرة :” الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة”(المادة 4 من مدونة الأسرة المغربية).
فغاية الصلح من هذا المنطلق صون الروابط العائلية وإصلاح ذات البين للحفاظ على التماسك الأسري بعد تذويب مواطن الخلاف من خلال حوار هادف لتحديد المسؤوليات وتحملها.
- ضرورة استحضار الإرث الغني من التراث الاسلامي والعرفي المغربي في مجال تسوية النزاعات عموما والأسرية خصوصا.
- ضرورة قيام منظمات المجتمع المدني بدورها في التوعية الاجتماعية والحقوقية وتكريس فكر التكافل والتضامن، مع ضرورة الحرص على عدم إسقاط التجارب المقارنة على المجتمع المغربي إسقاطا لا يراعي الخصوصية الفريدة للبنية المجتمعية المغربية.
- ضرورة النهوض بدور الإعلام والمؤسسة التعليمية في نشر ثقافة الحل الودي للنزاع
مع إشراك الأكاديميين والمتخصصين في هذا الباب بما من شأنه المساهمة في بناء تصور فعال يستحضر المخرجات العلمية المجتمعية في أفق بلورة استراتيجيات ناجعة في حل النزاع على هذا المستوى والتي تخدم أمن الأسرة والمجتمع المغربيين.
بقلم : سميرة خزرون دكتورة في الحقوق لفاس نيوز ميديا