الكبير الداديسي
المقطع كما يحكيه ابن الخطيب قبل أن يضرب الطاعون غرب العالم الإسلامي وهو مقتطف من في روايتي القادمة (رقصة الفلامنكو)
في فاس توطدت الأواصر، وتوسعت المعارف ومُدّت الجسور والقناطر، وعدتُ إلى غرناطة وقد كسبت ود السلطانين بفاس وغرناطة… وكان الربح الأكبر صداقة ابن خلدون الذي ألححنا عليه ليبادلنا الزيارة…
لم يتأخر، ولما جاز إلينا، خرجنا لاستقباله خارج غرناطة، استقبال الأكابر… أقسم بمن تقشعر النفوس لجبروته وعزته، وبمن حجَّت قريش لبيته، والنورٌ الذي ضربت الأمثال بمشكاته وزيته، أن زيارة ابن خلدون أعادت إلى قلبي الشباب، وخلصت النفس من الحزن والاكتئاب، وأن اللقاء كان لقاء الأحباب بالأحباب… ودون تفكير مسبق تدفَّق نبع البلاغة للقائه حبا صادقا شعرا ونثرا:
حللت حلول الغيث بالبلد المَحْلِ *** على الطائر الميمون والرحب والسهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة *** تنسِّي اغتباطي بالشبيبة والأهل
كانت الفرحة تقفز من عينيه، وما ندم على عبوره المضيق إلينا… وبعد ما يقتضيه حسن الاستقبال بضيف عزيز، رافقناه للقاء السلطان الذي اهتز لقدومه، وهيأ له قصرا في الحمراء بفرشه وماعونه، ونزل نزول الكريم بين أهله… وزيادة في إكرامه جعلنا بين يديه الجارية هندا، وهي من حِسان غرناطة، وأوصيناها بإراحته وتنعيمه، على سنة الله ورسوله، وقبل تودعه، غمزته وهمست إليه:
- أيها الصديق الفذ، أوصيك بعضة النهد، وقبلة الفم والخد، والإبحار من النجد إلى الوهد… إياك والتردد، وأسرع الإماطة لما يشوش ويشغب، وعجل بالسير إلى السرير… وتقصير هذا الليل البهيم الطويل…
تبسم وقد غلبه الحياء، وما كان ينتظر منا هذا العطاء، وفي عينيه بحر الشوق للتمتع… وليس في ما يوجبه الشرع من حياء…
وطيلة إقامته ما فارق بيننا إلا النوم، جمعتنا مجالس السلطان، واجتمعنا في الأكل على الخوان والصوان، وفي مجالس العلم والفكاهة وخلوات الأنس وما يجمع الخلاَّن… حتى سافر في سفارة إلى طاغية قشتالة الذي استولى على إشبيلية، لإتمام عقد الصلح المبرم بينه وبين ملوك العدوة…
وحين عاد إلينا ابن خلدون من مهمته سالما غانما، تحدث بأنفة، ولم يكن حديثه إلينا إلا حول استقبال الطاغية له بإشبيلية، وما خلفه وقوفه على آثار المسلمين في نفسه من حسرة وتذمر، وكيف غالبته دموعه لما ولج قصر ابن عباد أين استقبله حاكم قشتالة… يتحدث ويعيد كيف أثنى عليه حاكم قشتالة، والمكانة الذي حضي بها خاصة وقد وجد صديقنا الطبيب ابن زرزر اليهودي الذي كنا قد التقينا به في مجلس أبي عنان بفاس، وقد استدعاه ملك قشتالة لتطبيبه…
وكما تعجبت من قدرة هؤلاء اليهود على الرقص على كل الحبال والحفاظ على صلات الود مع كل الحكام والسلاطين… كانت حيرتي من تدهور علاقاتنا أحيانا دون سبب؛ فقد كانت علاقتي بابن خلدون سمنا على عسل، وسرعان ما فاحت منها رائحة الثوم والبصل، بعد أن غدَا يتعالى ويتطاول، ويتناسى أفضالي عليه ويتغافل… وبينما نحن في حضرة السلطان بمجلس أُنسٍ وطرب، تعمّد أن يُشعل اللهب، بعد أن صرح عما في نفسه من أرب، وأفصح عما في مكنونه وأعرب:
- لقد راودني بيدرو عاهل قشتالة عن نفسي، ومنحني إمكانية ترميم أملاك العائلة القديمة ضواحي إشبيلية، والعمل لديه مستشارا ووزيرا، لكن آثرت أن أكون إلى جنابكم الكريم يا مولاي. واستسمحكم إن اقتبست ما قاله المعتمد بن عباد ليوسف بن تاشفين لما قصده مستنجدا قبل معركة الزلاقة: “لرعي الجمال خير لي من رعي الخنازير”…
تحدث كثيرا عن رغبته في تولي الكتابة والوزارة، استلطف السلطان منه التشبيه ووافقه على الطلب، ورأى في نفسه القدرة على تحقيق ذلك الأرب، وتوحيد الأندلس واسترجاع ما سلبه القشتاليون من العرب، فأرسل السلطان أبو يوسف في إحضار أهل ابن خلدون إلى غرناطة، ووعده بتحقيق كل ما هو فيه راغب. جرت بينهما مودة، وأضحى ابن خلدون من أهل الدار، وقد نال من السلطان الاغتباط والاستئثار، وشعرتُ بأن مكانتي في خطر، وكلّ ما بنيته في سنين، يسير إلى دمار، وأن جزائي سيكون جزاء مجيرَ أم عامر، وفي أحسن الأحوال جزاء سنِّمار…
تأججت نار الحمية والغيرة في كياني، ولا يمكن أن تكون الريادة لغيري، والسفينة بتعدد الربابنة مصيرها لا محالة إلى القعرِ…
ألوم نفسي وأتذكر نصائح وحكم أستاذي رحمة الله عليه: اتق شر من أحسنت إليه، واحذر سيفا بين فكيك، فالنار المستعرة في جوف التنور ما أتته إلا من فمه…
أنا الذي ألححت عليه بالزيارة… أنا الذي بالغت في إكرامه ووفادته… وجعلت الجواري في خدمته تريحه… أشرفت بنفسي على إعداد مرتبته نومه، أوصيت هند أن تكون له اللحاف والسادة… وها هو الآن يزاحمني في الوزارة والكتابة… صحيح ” إن أنت أكرمت اللئم تمردا”
… خلوت بنفسي في مفازة، أخطط كيف تكون مع من يعترض سبيلي المبارزة… وقبل أن أعلن ما في نفسي للسلطان، كان الوشاة وأهل السعايات، قد حركوا بيني وبين ابن خلدون جياد الغيرة والوشاية، فأغارت على الود والصداقة، وانطفأت شعلة الفهامة والحذاقة…
سرُّبوا إلى ابن خلدون رسالة طويلة طعنَتْه في فحولته، ونفت عنه رجولته، وحطته محط شفقة الرجال، وسخرية ربات الحجال، وهو العلامة ذو الجاه والجلال، تصف الرسالة كيف عجز عن ركوب هند ذات الحسن والجمال، وكيف نكص وأحجم حصانه عند النزال، وكم يشفق العامة على صريع السرير… ابلغوه أنني جعلت العلامة الشجاع هدّانا جبانا، أسر إليه تلميذنا ابن زرمك وقد اجتزأ من الرسالة مقطعا عن سياقه، كلاما يكسر ما بيننا وبينه من كياسة ولباقة، وقيل له أنني وصفته لما أراد مباشرة هند بقولي “أدخل يده في جيبه فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، فكأن شيأه سلحفاة أغمدت، ورأسها جحدت، فكان كالأحول زائغ البصر، جف لعابه وخفق قلبه، وكبا جواده، فسال العرق، وجرى في غير محله المرق، فأدرك فرعون الغرق، ما زاد حاله إلا شدة، ولا عرفت رغبته إلا ردة…”
غضب ابن خلدون لِما راج عنه، لمّا صار العلاَّمة، بقدرة قادر، محط سخرية الخاصة والعامة، وتداولوا أشعارا سخروا فيها من أيره وتفننوا في تحقيره وتشبيه أيره بالحبل المتلف جنب الركية (دلو) لا يصلح لأي شيء مستشهدين بأبيات من الرسالة منها:
تعفَّفَ فوق الخصـيـتـيـن كـأنـه *** رشاء إلى جنب الركيّة متلفُ
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه *** إلى أبويه ثم يدركه الضعفُ
خلعت الوجوه قناع البشاشة ولبست العبوس، وتباعدت الأحاسيس، وكالزجاج يصعب جبر كسر النفوس، لذلك ما أن وصل كتاب حاكم بجاية يستدعي ابن خلدون للقدوم بين يديه، حتى كان عبد الرحمان قد حزم حقائب رحيله، فكتبنا له أمرا بالتشييع وقلبه يهفو لأرضه وبلده، واخترنا من الكلمات تشييعا وترفيعا ما يعيد الدم في وريده… ونعلن له بالترحيب إن نوى بعد النوى رجوعا…
غادرنا ابن خلدون، وقد ترك في النفس فراغا ووحشة، وفي الحلق غصة، وتنفست ضيقا كاد يعشش في الفِشَّة ففقدت صديقا ما تذكرته إلا وسرت في الجسد رعشة.