كلمة السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة ندوة الدبلوماسية الموازية في موضوع :” الآثار القانونية والسياسية للاعتراف الدولي بمغربية الصحراء”
بتاريخ 09 نونبر 2021 بالداخلة
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
لعلكم تحسون، بما يحس به كل وافد على هذه المدينة “المشرقة”، التي اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من المدن، وهي تحتل قلبه وجوارحه، فلا يملك إلا أن يقر بأن مدينة الداخلة تدخل للقلوب بقدر دخولها في المحيط. وتنشرح لها النفوس بقدر امتداد خليجها في شغاف البحر.
ولذلك، فلو لم تكن سوى دعوتكم لي لزيارة هذه المدينة الساحرة، لكان حرياً بي الإطناب في شكركم السيد النقيب وأعضاء هيئة المحامين بأكادير كلميم العيون .. أما وأن الدعوة تندرج في إطار تقليد قضائي ذي بعد وطني تسعى هيأتكم لترسيخه وتثبيته بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء كل عام، يحتفي بالوحدة الوطنية لبلادنا، ويجدد التزامنا بقسم المسيرة الخضراء، فهذا ما يستوجب مني التنويه بالمبادرة، وتقديم الامتنان للقائمين بها، والعاملين على تنفيذها، وفي مقدمتهم أنتم السيد النقيب، والسادة أعضاء مكتب الهيأة.
وإن السلطة القضائية، باصطفافها ضمن كل مكونات المملكة وراء جلالة الملك للدفاع عن وحدتنا الترابية، وتستحضر قول جلالة الملك (11/10/2013) : أن “قضية الصحراء ليست فقط مسؤولية ملك البلاد وإنما هي أيضا قضية الجميع”. لتؤكد عن التزامها بقضايا الوطن العادلة، وبالدفاع عن حقوق وحريات المواطنين من طنجة إلى الكويرة، وعلى امتداد ربوع الوطن العزيز. وتأكيدها على أهمية الدبلوماسية الموازية للعدالة، في الدفاع عن مختلف القضايا الوطنية، بكل المحافل الدولية والإقليمية والقارية.
كما أن انعقاد هذه الندوة العلمية المتميزة حول الدبلوماسية الموازية في هذا الوقت بالذات بحاضرة جهة وادي الذهب، بعدما أصبحت مقراً لقنصليات العديد من الدول، يعد تثمينا وتقديراً لرجاحة مبادرات الدبلوماسية المغربية الرسمية التي يقودها جلالة الملك من نصر إلى نصر، بموازاة مع النهضة التنموية الشاملة التي تعيشها المنطقة على غرار الجهات الأخرى من المملكة.
كما أن لقاء هذه السنة، الذي يتحدى الإكراهات التي تفرضها جائحة كوفيد، يأتي بعد المبادرة الشجاعة لجلالة الملك في فتح معبر الكركارات على الحدود مع الشقيقة موريطانيا، لمواصلة التبادل التجاري، وتنقل الأشخاص والبضائع من وإلى عمق القارة الإفريقية، التي تمثل جذور شجرة الوطن اليانعة، التي تمتد أغصانها نحو القارة الأروبية، فتصل بين الحضارات، وتربط الثقافات ببعضها. ويظل هذا الوطن محافظاً على أصالته وتقاليده التليدة في رعاية الجار وصلة الرحم.
حضرات السيدات والسادة؛
قال تعالى : “إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله. يدُ الله فوقَ أيديهم” (الفتح 10). وقال جل جلاله كذلك : “لقد رضي الله عن المؤمنين إد يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً” (الفتح 18).
فالبيعة، هذا الرباط المقدس، هي نظام إسلامي في الحكم، تعني المعاهدة على الطاعة من الرعية للراعي، والتزام الراعي بإنفاذ مهمات الحكم على أكمل وجه. فهي عهد يتم بمقتضاه تبادل الالتزامات على الحكم والطاعة.
ولذلك فهي رغم طابعها الديني التقليدي، بمثابة أنظمة الحكم الديمقراطية السائدة اليوم، وتعادل المنظور الدولي الحديث للسيادة على إقليم معين، ونظام الحكم الديمقراطي الاختياري.
وفي هذا الإطار كانت محكمة العدل الدولية قد أصدرت بناء على طلب من المغرب رأياً استشارياً بتاريخ
16 أكتوبر 1975، أكدت فيه أن إقليم الصحراء لم يكن أرضاً بلا سيد عند احتلاله من طرف إسبانيا (حددتها المحكمة في سنة 1884)، وإنما كان أرضاً مأهولة بسكان منظمين سياسياً واجتماعياً تحت سلطة شيوخ يبايعون ملوك المغرب. كما أن إسبانيا نفسها، لما أقامت “حمايتها”، تذرعت باتفاقات مبرمة مع الشيوخ المحليين.
ولذلك فإن شكل الدولة في القرن التاسع عشر بكامل الإيالة المغربية، كان قائما على أساس نظام البيعة، حيث كانت القبائل تبايع سلاطين المغرب بواسطة شيوخهم وعلمائهم ووجهائهم، الذين كانوا هم الممثلين للسكان المحليين. وكان هذا سارياً بالنسبة لكل مناطق المغرب. منذ عهد الأدارسة، وما زال معمولاً به إلى اليوم، سواء بشكله التقليدي، حيث يجدد السكان بواسطة ممثليهم البيعة لملوكنا غداة أعياد العرش في احتفالات تقليدية بديعة،
أو بشكله المعاصر القائم على التنظيم الدستوري الحديث، الذي يعطي للملكية مركزاً محورياً في النظام السياسي للمغرب ويجعل الملك أميراً للمؤمنين.
وإذا كانت محكمة العدل الدولية، بعد إطلاعها على عشرات الآلاف من الوثائق التي قدمتها المملكة لتأكيد سيادتها التاريخية على الأقاليم الجنوبية، قد اعترفت بوجود روابط بيعة بين سكان هذه الأقاليم وسلاطين المغرب. فإن البيعة ظلت مستمرة رغم احتلال المنطقة من طرف إسبانيا لما يربو على قرن، حيث ظل سكانها يدينون بالولاء لسلاطين وملوك المغرب.
كما أن ممثلي السكان، قد سارعوا إلى تجديد البيعة لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني لحظة استرجاع الأقاليم الجنوبية. وهم مواظبون على تجديدها كل سنة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة أعياد العرش. وبما أن المناسبة شرط، ونحن في مدينة الداخلة، عاصمة جهة وادي الذهب، فلابد من الإشارة إلى وثيقة بيعة سكان هذه الجهة لجلالة الملك، التي تلاها القاضي الفاضل العالم التقي، المرحوم أحمد حبيب الله حي الله، والذي وصفه جلالة الملك محمد السادس في رسالة التعزية التي بعثها جلالته لعائلة الفقيد في 16 فبراير 2009 بكونه “مثالاً يحتدى في الوفاء للثوابت المقدسة بالغيرة الوطنية الصادقة، ومقاومة كل الأطماع الأجنبية، والتفاني في الذود عن مغربية الصحراء”.
وقد جاء في وثيقة البيعة : “اجتمع شرفاؤنا وعلماؤنا وأعياننا ووجهاؤنا، رجالنا ونساؤنا، كبارنا وصغارنا، فاتفق رأينا الذي لا يتطرق إليه اختلال، واجتمعت كلمتنا التي لا تجتمع على ضلال، على أن نجدد لأمير المؤمنين، وحامي حمى الوطن والدين، سيدنا الحسن الثاني، حفظه الله بالسبع المثاني، البيعة التي بايع بها آباؤنا وأجدادنا آباءه وأجداده الكرام، وأقررنا بحكمه والتزمنا طاعته ونصحه في كل وقت وآن، فنحن أنصاره وأعوانه، وعساكره وجنوده، نوالي من والى، ونعادي من عادى، أخذنا بذلك على أنفسنا العهود والمواثيق، راضين مختارين، واعين مستبصرين….”
وقد قبل جلالة المغفور له الحسن الثاني، طيب الله ثراه، بيعة سكان جهة وادي الذهب وخاطبهم بالقول السامي : “رعايانا الأوفياء سكان إقليم وادي الذهب، إننا قد تلقينا منكم اليوم البيعة، وسوف نرعاها ونحتضنها كأثمن وأغلى وديعة، منذ اليوم بيعتنا في أعناقكم، ومنذ اليوم من واجبنا الذود عن سلامتكم والحفاظ على أمنكم والسعي دوما في إسعادكم، فمرحبا بكم يا أبنائي في حظيرة وطنكم …”.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
أمام هذه الوقائع الموثقة والحاسمة، يصبح اعتراف الهيئات والدول بمغربية الصحراء بمثابة الإقرار والاعتراف الكاشف لحقيقة أثبتها التاريخ، ووثقها الشرع والقانون، وأقرها الواقع. وهي الحقيقة المبنية على كون الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه، شاء من شاء وكره من كره. ولا أدل على ذلك من السيادة الهادئة للمغرب على أقاليمه الجنوبية، والمشاركة السياسية المكثفة لبنات وأبناء الصحراء المغربية في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة كما في سابقاتها. بل ودفاعهم الدائم عن القضايا الوطنية في المحافل الدولية على اختلاف مشاربها.
ولعل ما تحقق من إنجازات بنيوية ضخمة وإقلاع اقتصادي وتنمية هائلة في المناطق الصحراوية منذ استرجاعها، يشهد على العناية الخاصة التي يوليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره للسلطة، التي تم إخراجها من ضعف البنية التحتية التي خلفها الاستعمار إلى آفاق واعدة في عالم الاستثمار ووجهة مفضلة لتنظيم أكبر المسابقات العالمية، ومركزاً مميزاً لاحتضان أكبر المنتديات والملتقيات الدولية الوازنة.
حضرات السيدات والسادة؛
لقد كانت السلطة القضائية على اختلاف مكوناتها، واعية على الدوام بأدوارها التي يفرضها واجبها في الدفاع عن القضايا الوطنية ذات الأولوية. وقد سخرت محكمة النقض بحكم مكانتها كمحكمة عليا على رأس الهرم القضائي، إمكانياتها وما أتيح لها من فرص التواصل المؤسساتي على المستوى الإقليمي والدولي في إطار الزيارات المتبادلة والملتقيات والمناظرات، للتعريف بالقضية الوطنية، والدفاع عن عدالتها، ومشروعية مواقف المملكة المغربية ووجاهة خياراتها.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن محكمة النقض، وحرصا منها على الحفاظ على غنى التراث القضائي لأجيال القضاة التي تعاقبت عليه، وكذا تنوعه عبر الحقب التاريخية، عملت على تأهيل فضاء بها كمتحف لحفظ الذاكرة القضائية، مخصص لعرض شهادات ووثائق ومخطوطات تؤكد على عراقة المغرب وأصالته، كما تَعرض فيه على الخصوص ما استجمعته من أحكام صادرة عن قضاة المملكة عبر التاريخ في مختلف مناطقها، ومنها الأقاليم الصحراوية التي صدرت عن قضاتها، أحكام باسم سلاطين وملوك المغرب، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على وحدة المملكة من خلال قضائها.
وإن القضاء المغربي، ومختلف مكونات العدالة بالمملكة مصممة العزم على مواصلة مهمتها في إطار الدبلوماسية الموازية، بالإضافة إلى مهامها الأصلية، مدافعة عن حقوق وواجبات الأشخاص بكافة ربوع المملكة السعيدة، إسهاماً منها في ترسيخ بناء دولة القانون والمؤسسات. جاعلين نصب أعينهم على الدوام نص الخطاب الملكي السامي الذي وجهه صاحب الجلالة المنصور بالله للأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 2021، والذي جاء فيه :
“.. ورب ضارة نافعة؛ فمؤامرات أعداء وحدتنا الترابية، لا تزيد المغاربة إلا إيمانا وإصرارا، على مواصلة الدفاع عن وطنهم ومصالحه العليا..”.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.