تمغربيت في استراتيجية التواصل والخطاب عند رجل السلطة..
بقلم: الدكتور عبدالله شنفار
—*—
كيف هي طبيعة التواصل عند رجل السلطة؟ لماذا الخطاب أحيانا يتميز بالخشونة لديه؟ ولماذا يكون أحيانا مضطرا، بل مجبرا ومدفوعا على انتهاج تقليل الحياء وأسلوب التكرار والركاكة في التعبير والأسلوب المبتذل؟ كيف يتأثر بمحيطه الاجتماعي والثقافي؟ ما هو الدور الذي تلعبه مؤسسة القايد والباشا في المجتمع المغربي؟ ما هو الفرق بين قائد وباشا الامس وقائد وباشا اليوم؟ كيف يتمثل المواطن مؤسسة القائد والباشا في المتخيل والتمثلات الاجتماعية؟ هل تم تجاوز الصورة النمطية التي كانت تجعل من هذه المؤسسة فقط احتكارًا للسلطوية كخلل عام في العلاقة بينها وبين المواطن؛ في ظل تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وحقوقية عرفها ويعرفها المجتمع المغربي؟
على هامش ما رافق هذه الجائحة لفيروس كورونا المستجد، من أكاذيب وإشاعات وهزل ونكث وخرافات وصلت حد الغباء الجماعي لدى بعض الناس ممن يصدقون كل شيء يكتب ويقال ويروج؛ ويقومون عن حسن أو سوء نية بالترويج له وتقاسمه والتفاعل معه على أساس أنه حقيقة؛ ليكتشف بعد وقت وجيز كم نحن أغبياء وكم يسكننا من الوهم والتفاهة والسخافة والجهل بحقيقة ومنطق الأمور.
معروف أن المجتمع المغربي يتميز بنوع من التنضيد الاجتماعي المتعدد الثقافات؛ ومراعاة لخصوصية كل مكون اجتماعي، يجب اختيار طريقة وأسلوب التعامل واستراتيجية التواص معه؛ وإلا تحصل القطيعة.
باستحضار مواقف وتصرفات بعض رجال السلطة القدامى من طراز القائد رضى الرحماني والباشا التهامي لكلاوي والقائد العيادي… وغيره؛ وفي إطار قراءة للتاريخ من أجل استنباط وتنزيل مادة للاشتغال عليها؛ نجد أمثلة مختلفة كما يلي سوف أقتصر على البعض منها لإبراز مستوى الدهاء عند هؤلاء:
الأولى: يحكى أنه يوما قد اشتكت احدى السائحات الأجنبيات لباشا قرية فاس تعرضها لسرقة حقيبتها من أمام احدى المحلات التجارية بدروب فاس العتيقة. فأصغى إليها الباشا وأمرها بالانصراف بعد أن وثق شكايتها وعنوانها. وبعد مدة، وفي إطار التحري وفتح التحقيق للوصول إلى الفاعل؛ امتطى الباشا صهوة جواده وتوجه بالضبط إلى عين المكان الذي وقعت فيه عملية السرقة فوقف بجواده دون أن يبدي ولو كلمة أو ردة فعل واحدة ثم انصرف عائدا إلى مكتبه.
بعد مرور حوالي ساعة زمنية؛ نعم ساعة زمنية لا أكثر، استدعى باشا قرية فاس صاحب المحل التجاري الذي وقعت أمامه السرقة وطرح عليه سؤالا جوهريا وبسيطا وهو كما يلي: ” من جاء عندك مباشرة بعد مغادرتي باب محلك في اليوم والساعة كذا، وسألك عن سبب حضور الباشا هناك؟”؛ فأجابه صاحب المحل: فلان. أمر الباشا بإحضار المعني بالأمر المصرح عنه؛ فقال له الباشا أين حقيبة السائحة الأجنبية؟ فأخرجها على الفور من جيب ثيابه. فأعادها لصاحبته وتم عقاب السارق في الجلسة وحبسه.
الثانية: يحكى أنه ذات يوم دخل أحد المشتكين؛ يمشي وواقفا على رجليه؛ على مجلس باشا مدينة ورززات؛ التهامي لكلاوي، وكله ملطخ بالدماء وفي وضعية صحية جد حرجة؛ مشتكيا تعرضه للاعتداء بالضرب والجرح من قبل جاره في إطار نزاع حول الأرض، وبسبب عدم اتخاذ جاره للإجراءات الضرورية لمنع عشب ضار يسمى “النجم” المضر بالغلة، من اجتياحه لحقل المشتكي. وبعد ان استمع اليه الباشا بإمعان أمر الحراس بتوقيفه وإدخاله السجن. مع أمر بإحضار المشتكى به. فاندهش الحاشية والحضور من قرار باشا أهل ورززات من القرار الذي فيه نوع من الغلظة والتعسف والشطط وصل حد الظلم على مواطن يشتكي ظلما فزج به في غياهب السجن.
بعد ساعة أو أقل تم إحضار المشتكى به؛ لكن ليس ماشيا أو واقفا على رجليه؛ عكس كما حضر المشتكي؛ بل محمولا على حمالة إسعاف ملطخا في دمائه ومن الصعب التعرف عليه جراء ما تعرض له من اعتداء شنيع وكسر رجليه ويديه من طرف المشتكي.
ومن خلال استحضار هذا الحوار للأستاذ محمد ضريف الذي ورد في كتابه النسق السياسي المغربي المعاصر؛ حيث انه في معرض محاورة له لأحد المنتخبين وهو رئيس سابق لجماعة عين حرودة، قال له: ما رأيك في القايد اليوم والقايد بالأمس؟ أجاب هذا المنتخب أن القايد “بكري” يعني، كلمة نقولها للتعبير عن الزمن في الماضي، هو قايد الأمس الذي يعطيك حقك على التو حينما تلجأ إليه، أما قائد اليوم؛ فحين تذهب إليه يقول لك: هذا ليس من اختصاصي! فاستطرد الأستاذ ضريف بالقول: لكن هذا شيء منطقي وطبيعي؛ إنه فصل السلط!؟ فرد عليه المنتخب – الرئيس قائلا؛ وهو يلمح بأسبقية الحق على القانون لدى المواطن المغربي: وماذا عسا أفعل بأرض لبثث يوما أو ليلة عند مغتصبها؟! مشبها الأرض بالمرأة.
هذه العناصر وغيرها تنم عن معرفة عميقة بمتناقضات المجتمع من طرف رجل السلطة الذي يوجد في حالة اتصال مباشر ويومي بالمواطنات وبالمواطنين؛ حيث يعرف كل واحد على حده ويعرف ماذا يحرك وكيف يتفاعل ويفهم هؤلاء. لذلك يكيف خطابه وفق هذا المستوى أو ذاك. فهو يعرف نقط القوة والضعف في كل شخص خاضع له؛ ويعرف من تحركه أهواء الفساد والمال أو التقرب من السلطة او حب السيطرة ومن له نفوذ أو تأثير وقوة في تحريك الناس والمنافق والمراوغ والكذاب والمعقول والمخادع والضعيف والفقير وصاحب الحسب والنسب…؛ وهذا مستوى علمي وعملي يستطيع بواسطته ضبط النسق الاجتماعي؛ من خلال مقربيه الذين يوفرون له المعطيات ومختلف المعلومات حول الافراد والجماعات. لذلك يكيف سلوك الخطاب حسب كل فئة.
وبالتالي فقائد اسفي حينما كانت تخاطب الناس بمناسبة جائحة فيروس “كورونا” بتلك اللغة؛ أو بالأحرى بتمغربيت؛ فهي خبيرة وتعي جيدا لمن توجه الخطاب. بحيث إذا وضعت في إطار أو موقف آخر؛ سوف تجد لغة وخطابا آخر تكتشف من خلاله رجل السلطة المثقف الحاصلة على درجة دكتوراه في الحقوق التي تلقت تكوينا إضافيا لمدة سنتين بالمعهد الملكي للإدارة الترابية من أجل صقل مواهبها وقدراتها وتصحيح معارفها النظرية التي تلقيناها جميعا بمدرجات الجامعة المغربية.
القائد في تكوينه بالمعهد الملكي للإدارة الترابية؛ وفي إطار درس لكيفية ممارسة السلطة؛ يدرس جهازا اصطلاحيا ومفاهيميا مغربيا من طراز معنى: تكركر علي، والمبهوض، والبوحاطي، وهرمة، ولمطحطح، والغاشي، لمصرفق، والله يحسن لعوان لكل واحد، والمنزلة، والطنز، والضسارة، والنديه، والبراح، والمجذوب والمسكون والمستوه، ولمسطسط والبراني ولمعوج… وغيرها من مصطلحات تمغربيت.
وبالتالي لا يعتقد من يحسن تبخيس عمل السلطات والمؤسسات؛ أن قائد أسفي كانت تجهل مستويات التزام واجب التحفظ أو تتكلم من فراغ أو لا تنتقي مفرداتها وفق المعطيات المتاحة وسيكولوجيا الناس الذين تتولى خدمتهم. فهي لم تستورد مفردات أو مصطلحات فرنسية كما يفعل البعض لمخاطبة مغاربة؛ بل انطلقت من تمغربيت لتوصل اليهم فكرة التزام بيوتهم. ولو كانت تعمل بمنطقة أهلها يتكلمون الأمازيغية أو الحسانية لخاطبتهم بلغتهم انطلاقا من تلك العربة “الوثة” بالتعبير الحساني أو السيارة التي كانت تستعملها من خلال مكبر الصوت.
في هذا الاطار نستحضر العالم “يورغى هابر ماس” الذي ينطلق في نظريته الفعل التواصلي مما يسميه “المصلحة العملية”؛ حيث تعتبر اللغة من أهم الوسائل للتواصل والتفاعل بين الناس والتي تحدد طرق فهمنا لبعضنا البعض في إطار التنظيمات الاجتماعية.
ويذهب “هابرماس” إلى أن البنيات الاجتماعية تنبني على التفاعل القائم على الخداع والتضليل بشكل منظم من أجل تحقيق مصالح معينة؛ من خلال الوعي الذاتي بما نفعل وانطلاقا من قواعد التواصل المقبولة اجتماعيا.
فنكران الذات المؤسساتي من قبل رجل السلطة: رجل السلطة والإنسان؛ يبدو أنه فهم حديث يتنافى وسيادة الجهل والفكر العدمي والتبخيسي من قبل بعض الناس.