ملخص تنفيذي
إن وعي حزب العدالة والتنمية بدقة وحساسية هذه المرحلة من تاريخ وطننا وأمتنا والعالم أجمع، وحجم وثقل تحدياتها وأهمية استحقاقاتها، يجعل من هذه الدورة العادية للمجلس الوطني دورة استثنائية بكل المقاييس، سواء تعلق الأمر بسياق انعقادها المطبوع وطنيا بالتحديات المرتبطة أساسا بواجب دعم المسار الإيجابي لقضيتنا الوطنية الأولى وبمعالجة مخلفات وآثار زلزال الحوز، والمتميز على مستوى أمتنا بتداعيات طوفان الأقصى والمقاومة الفلسطينية الباسلة ومواجهة العدوان الصهيوني الغاشم، مما يجعل هذا التقرير السياسي يتجاوز أن يكون مجرد تقرير مرتبط باستحقاق تنظيمي عادي، بل يمثل وثيقة سياسية، تقدم تشخيصا مسؤولا للوضع الراهن، وتحديد أعطابه وجذورها، واستعراض آفاق تطورها، ومسؤولية الحزب في تجاوزها، وفق ما تقتضيه خطورة المرحلة وما تستلزمه من مسؤولية وصراحة ووضوح.
لقد تأسس حزب العدالة والتنمية وتطور انطلاقا من ثوابت واختيارات واضحة قوامها أنه حزب وطني إصلاحي ينطلق من المرجعية الإسلامية وثوابت الأمة الجامعة التي يسعى لتمثلها في علاقاته ومسلكياته ومواقفه وأدائه، باعتبارها مرجعية الدولة والمجتمع، وأساس الهوية والوحدة والأصالة الحضارية للأمة المغربية؛ كما أنه بُني على اعتبار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين صمام أمان ووحدة واستقرار، بما يجمع بين الملك أمير المؤمنين والمواطنين والمواطنات من روابط البيعة الشرعية ومقتضيات الدستور، وباعتباره رمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والساهر على صيانة الاختيار الديمقراطي والحقوق والحريات، وضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.
كما قام الحزب على ارتباطه وقربه وانشغاله الدائم بهموم وانتظارات المواطنين والمواطنات، والتزامه بالدفاع على قضاياهم المشروعة، وسعيه للمساهمة في رفع تحديات ترسيخ الاختيار الديمقراطي والحقوق والحريات الدستورية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، بما يوفر شروط الإقلاع الحضاري والنهضة الشاملة لبلدنا وشعبنا، وهو ما قدمت تجربة الحزب في المعارضة أو في الحكومة، وخاصة في العقود الثلاث الماضية شواهد دالة عليه.
وانطلاقا من هذه الثوابت والأسس، يأتي هذا التقرير اليوم بعد حوالي سنتين ونيف من عمل الحزب وأدائه السياسي والتنظيمي بعد مؤتمره الوطني الاستثنائي، وكذا بعد إتاحة الفرصة وترك الوقت الكافي للحكومة والجماعات الترابية المنبثقة عن أغلبية 08 شتنبر 2021، والتي وبعد مرور ما يقرب من نصف الولاية الحكومية وثلث ولاية الجماعات الترابية، لم يعد هناك أي عذر أو مبرر لما حصل من اضطرابات متتالية وإخفاقات وارتباك وتخبط وتعثر مستمر وانفضاح حقيقة كفاءاتها وسوء حكامتها وأخطاء سياساتها ومقاربتها لتدبير الشأن العام الوطني والترابي.
وفي البداية، واجتماع مجلسنا الوطني يتزامن مع الاحتفال -لأول مرة- برأس السنة الأمازيغية بعد أن تفضل جلالة الملك حفظه الله، في 03 ماي 2023، بإقرارها عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، وهي مناسبة لنتقدم بالتهنئة لجلالة الملك حفظه الله ولعموم الشعب المغربي، باعتبار الأمازيغية جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة والغنية بتعدد روافدها، ورصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.
وعلى مستوى تدبير الشأن العام، فإن ما تشهده بلادنا من انتكاسة متفاقمة وغير مسبوقة على هذا المستوى، وفقدان الثقة في السياسة والسياسيين وفي المؤسسات المنتخبة، وما عرفته بلادنا بشكل غير مسبوق على مدار الشهور والأسابيع والأيام الأخيرة من سلسلة من المتابعات والتوقيفات والمحاكمات المتتالية في حق عدد ممن يتولون مهام نيابية وطنية أو منتخبين ومسؤولين بجماعات ترابية بشبهة جرائم الفساد المالي والانتخابي والاتجار في مواد محرمة قانونا، سببه بالأساس إضعاف الأحزاب الوطنية الحقيقية والمناضلين الحقيقيين والشرفاء من أبناء الوطن، والدفع إلى الواجهة بكائنات انتخابية فاسدة وانتهازية وغريبة عن الجسم السياسي والحزبي، وما رافق ذلك من إفساد انتخابي، وهو ما زرع الشك في العملية الديمقراطية برمتها وأفرغ الانتخابات من وظيفتها النبيلة وأفقدها رمزيتها ومكانتها لدى المواطنين، كل هذا في الوقت الذي بوأ فيه الدستور الأحزاب السياسية مكانة أساسية وأناط بها مهمة تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وتدبير الشأن العام، والتعبير عن إرادة الناخبين؛ كما كرس الاختيار الديمقراطي ضمن الثوابت الأربع الجامعة للأمة المغربية، ونص على أن تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم.
كما أن ما تشهده بلادنا من تردي غير مسبوق على مستوى تدبير الشأن العام ومصالح المواطنين والمواطنات وطنيا وترابيا ومن إضعاف لمؤسسة رئاسة الحكومة وللحكومة وغياب وتدني مستوى الأداء البرلماني، سببه بالأساس أغلبية حكومية وبرلمانية وترابية تعاني من آفة غياب الشرعية الانتخابية الواضحة، وضعف الكفاءة والمصداقية في القول والعمل بعد إخلافها للعديد من الوعود الانتخابية ووعود البرنامج الحكومي، بالإضافة إلى كونها أغلبية تبدو بعيدة عن الواقع ومرتهنة لمصالح لوبيات الريع والفساد.
كل هذا أدى إلى فراغ سياسي خطير وغير مشهود وفقدان للثقة في السياسة وفي الأحزاب السياسية وفي كل أشكال الوساطة المؤسساتية، وهو ما اتضح بشكل جلي مع مرور الوقت من خلال بروز محطات وأشكال احتجاجية جديدة فضحت عزلة الحكومة أمام الرأي العام، وانجلى معه بوضوح زيف حصول الأغلبية الحكومية على 5 مليون صوت التي يتغنى بها رئيس الحكومة وأغلبيته، حيث وجدت الحكومة نفسها معزولة وغير مسنودة شعبيا وتُقَابَلُ سياساتها بالرفض والاستهجان، ولا تجد من يناصرها أو يدافع عنها باستثناء الأصوات والمواقع المأجورة المتخصصة في مدح الحكومة ومهاجمة المعارضة وتسفيه كل صوت ينتقد الحكومة وسياساتها الفاشلة.
لقد جعلت الحكومة وأغلبيتها من المؤسسات المنتخبة مؤسسات شكلية عاجزة عن التواصل السياسي المسؤول واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، فضلا عن كونها منتجة للأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتتالية، ومتخبطة في مسلسل توقيفات ومتابعات ومحاكمات متتالية وغير مسبوقة لمنتخبيها وطنيا وترابيا، وأصبحت تشكل عبئا مُكَلِّفًا على الدولة وعلى المجتمع، وتحتاج في كل مرة للتدخل لإنقاذها من مخلفات تأخرها في اتخاذ القرارات اللازمة وسياساتها الفاشلة وأزماتها المتلاحقة، وآخرها الكارثة الوطنية غير المسبوقة في تاريخ التعليم ببلادنا والمتمثلة في شَلِّ كل المؤسسات التعليمية لعدة شهور وبروز شبح سنة بيضاء، بالإضافة إلى عجز الحكومة عن التخلص من هوس تجاوز إنجازات رئاسة حزب العدالة والتنمية للحكومة في العُشَرية السابقة، واجتهادها في قرارات القطيعة معها عوض ترصيدها والالتفات إلى المستقبل والعمل المسؤول، وفي المقابل لا تكف بعض مكونات الأغلبية عن تأجيج الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي، والاستفزاز لهوية الأمة وقيمها، وإرباك الاستقرار، مما جعلنا أمام حالة فراغ وتَصَحُّر سياسِيَّيْن غير مسبوقَيْن، وأمام أدنى نسبة رضى وثقة في صفوف الأسر منذ سنة 2008.
إن هذا الوضع المزري وهذه النتائج المخيبة للآمال وهذا الأداء السياسي والتدبيري الضعيف والمرتبك على المستويين الوطني والترابي وهذا العدد والحجم غير المسبوق من ملفات الفساد، يقتضي القول والصدع، بكل وطنية ومسؤولية ووضوح وقوة، بأن المقاربة السياسية الخاطئة التي اعتمدت في تدبير مرحلة ما بعد انتخابات 2016، وفي الإعداد لانتخابات 08 شتنبر 2021 وماتبعها، أدت لإرباك قواعد التعددية الحزبية وإضعاف وتهميش المؤسسات الحزبية الوطنية وبث الشك في نفوس المناضلين وعموم المواطنين من جدوى الانخراط في العمل السياسي والحزبي والاهتمام بالشأن العام ومن جدية وصدقية العملية الانتخابية برمتها، كما أدت من جهة أخرى إلى إرباك المسار الديمقراطي والتنموي والمس بالتراكم الذي حققته بلادنا على مستوى تكريس الاختيار الديمقراطي، مما فتح المجال لزواج المال بالنفوذ السياسي والفساد المالي والانتخابي، ولتصدر المشهد السياسي والحكومي من طرف حكومة ضعيفة سياسيا وغائبة تواصليا وغير قادرة على مواجهة الملفات الاقتصادية والاجتماعية والقطاعية، يطبع عملها التأخر والارتباك وضعف الاستباقية وغياب الحس السياسي، وهو فراغ أدى إلى بروز ظواهر اجتماعية احتجاجية جديدة ترفض كل أشكال الوساطة المؤسساتية.
لذا، فإن واجب المرحلة يتطلب وبكل استعجال تحضير شروط وآليات تصحيح المسار السياسي والديمقراطي والحزبي والانتخابي، فبلادنا أمام مفترق طرق مصيري يتطلب تقوية الجبهة الداخلية بأحزاب وطنية حقيقية ومستقلة، وبمناضلين حقيقيين ونزهاء، وبمؤسسات منتخبة قوية وذات شرعية وذات مصداقية لا لبس فيها.
كما أن ضعف الحكومة وأخطائها المتكررة وارتباكها وتفاقم الوضع الاجتماعي وتزايد الاحتجاجات يتطلب منا نحن كحزب وطني مستقل في موقع المعارضة أن يقوي حضوره ويرفع وتيرة أدائه النضالي ويعزز مواقفه في مواجهة الحكومة وسياساتها الفاشلة وأن يواصل دفاعه وبقوة عن المصالح والمطالب المشروعة للمواطنين بما يدعم الاستقرار ويحقق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
لقد قضى الحزب، وفي ظل هذه الظروف الصعبة، سنة متميزة من الأداء النضالي والحزبي والإنتاج السياسي عَبَّر خلاله بقوة ومسؤولية عن مواقفه من موقع المعارضة الوطنية الحاضرة والحريصة، وذلك عبر سلسلسة من بلاغات الأمانة العامة والندوات الصحفية الموضوعية وتدخلات ومبادرات المجموعة النيابية بمجلس النواب ومختلف الأنشطة الحزبية الوطنية والمحلية التي تنظمها مؤسسات الحزب وهيئاته الموازية، شملت التصدي لمحاولات استهداف الهوية والقيم والوحدة الترابية والوطنية؛ والدفاع عن قضايا أمتنا ودعم القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية ومناهضة التطبيع؛ ومتابعة العمل البرلماني ومراقبة العمل الحكومي، ومواجهة المس بالمكتسبات الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين والمواطنات، وبالخصوص ما حققته بلادنا لصالح الفئات الفقيرة والهشة، والتصدي لقصور ومحدودية وفشل الحكومة في تدبير الشأن العام، ولاسيما الفشل في معالجة موجة غلاء الأسعار وأزمة التعليم وغيرها…
وعلى صعيد قضايا أمتنا، لقد حضرت وبقوة معركة طوفان الأقصى وأدائها البطولي وتطوراتها الخطيرة في أجندة الحزب وهيئاته منذ السابع من أكتوبر الماضي، وأمام هول ما اقترفه العدو الصهيوني الغاصب والمستوطنين المسلحين في حق أشقائنا في غزة والضفة الغربية والقدس الشريف والأقصى المبارك، ونقضه لكل المبادئ والقيم والقوانين والاتفاقيات، قام الحزب بواجبه في دعم المقاومة الفلسطينية وحقها الثابت والمشروع في مواجهة العدو الصهيوني الغاشم، وعمل على المساهمة في نصرة أشقائنا الفلسطينيين وشارك مناضلوه ومناضلاته في مختلف المسيرات والفعاليات والمبادرات التضامنية الوطنية والشعبية التي نظمت عبر ربوع المملكة، كما بادر الحزب انطلاقا من واجبه الديني والأخوي والإنساني إلى الدعوة إلى قطع جميع علاقات الاتصال والتواصل والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب وإغلاق ما سمي بمكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط وطرد رئيسه وجميع ممثليه بشكل رسمي.
لقد أبرزت المقاومة الفلسطينية الباسلة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام؛ وإخوانهم في سرايا القدس؛ وفي باقي فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية، بأدائهم البطولي وثباتهم الأسطوري في مواجهة الكيان الصهيوني الغاشم وآلة الحرب والتقتيل والتدمير الصهيونية في حرب إبادة غير متكافئة، مدى جبن وهشاشة وحجم هزيمة واندحار العدو الصهيوني، وأكدت للعالم أجمع الطبيعة الدموية والوحشية لهذا الكيان النازي، الذي يواصل مجازره ووحشيته وانتهاكاته الجسيمة وتجاوزاته السافرة للقرارات الأممية وللقوانين الدولية وللقيم الإنسانية.
كما بلغ حجم جبن وعجز وهزيمة العدو الصهيوني الغاصب في مواجهة المقاومة الفلسطينية الباسلة في الميدان على أرض غزة الصامدة أَوْجَهُ، حيث لجأ إلى عملية إرهابية جبانة وغادرة خارج تراب غزة وقام باغتيال القيادي الكبير بحركة المقاومة الإسلامية حماس، المجاهد الشيخ صالح العاروري، ومجموعة من إخوانه من القسام، كما اغتال أزيد من 100 صحفي وصحفية، لا لشيء إلا لأنهم يفضحون بكل تضحية ومهنية وجهه الهمجي والوحشي وادعاءاته الكاذبة بحرصه على تجنب المدنيين، وبلغت به الدموية والوحشية حد استهداف عائلاتهم، حيث قام جيش الاحتلال الصهيوني بإبادة عائلة الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح عن آخرها أمام مرأى ومسمع من العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا، وهو ما يفنذ ادعاءاتهم الكاذبة بالدفاع عن الحق في الخبر وحماية الصحفيين ووسائل الإعلام.
وعلى مستوى قضيتنا الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية، ثمن الحزب عاليا ما شهدته هذه السنة من تطورات دالة على طريق الحسم النهائي لهذا الملف في إطار المسار الوحيد المعتمد داخل الأمم المتحدة انطلاقا من المقترح المغربي للحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية تحت سيادة المغرب وفي إطار وحدته الترابية، وهو ما أكده تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في أكتوبر 2023 ثم زيارة مبعوثه الشخصي للمنطقة ووقوفه على الواقع الفعلي والمتواصل لتنمية الأقاليم الصحراوية من المملكة والمجهود الوطني المبذول لتحقيق تقدمها واندماج ساكنتها في تدبير شؤونهم، مقابل تفاقم أزمة وورطة الطرح الانفصالي داخل مخيمات تندوف، وكلها مؤشرات تؤكد صواب النهج المغربي في تدبير هذا النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية.
وفي هذا الصدد، ونحن نعيش أجواء الذكرى الثمانين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، والتي أعطت شرارة انطلاق المقاومة الوطنية التي مكنت بفضل الله، ثم بفضل التحام وثورة الملك والشعب والحركة الوطنية، من طرد الاستعمار الفرنسي وتحقيق الحرية والاستقلال، وهي ذكرى خالدة وملهمة باعتبار أنها تثبت أن معركة الحرية والسيادة الوطنية والترابية وتحقيق التنمية والاستقرار هي معركة مستمرة وضمانة الانتصار فيها، بعد الله سبحانه وتعالى، تكمن في تشبت الشعب المغربي بثوابته الوطنية الجامعة ووحدة ووحدة جبهتنا الداخلية، والاعتماد على مقدراتنا ومؤهلاتنا الذاتية، والإرادة المشتركة بين جلالة الملك أمير المؤمنين، باعتباره رمز الأمة وضامن وحدتها واستقرارها، والشعب المغربي الأصيل، المعتز بدينه وهويته وتاريخه والمستعد لبذل الغالي والنفيس في سبيل الحرية والعزة والكرامة، وقواه الوطنية الحية والمخلصة.
كما تابع الحزب ملف إصلاح مدونة الأسرة منذ بداياته الأولى، عبر التصدي لبعض المواقف النشاز من الداخل أو التي وردت في توصيات دولية في اتجاه محاولة إبعاد المرجعية الإسلامية وعلمنة نظام الأسرة وخدمة سياسات تفكيكها وإضعافها وتحقيق ما تم الفشل فيه قبل حوالي عشرين سنة، كما انخرط بإيجابية في هذا الورش وقدم بتاريخ 29 نونبر 2023 مذكرته أمام الهيئة المكلفة بإعداد تعديلات مدونة الأسرة، والتي أكد فيها على المرجعية والمرتكزات التي ينبغي أن تحكم أي إصلاح والمتمثلة في ضرورة التزام المرجعية الإسلامية واعتبار المقتضيات الدستورية واحترام التوجيهات الملكية وقناعات الشعب المغربي المسلم، وقَدَّم على هذا الأساس مقترحات بخصوص المطالب التي يرفضها الحزب رفضا تاما باعتبارها لا تحترم ولا تلتزم بهذه المرجعية والمرتكزات؛ وتعديلات تشريعية بالنظر للاختلالات القضائية والقانونية التي كشف عنها تطبيق المدونة؛ واقترح إجراءات داعمة على مستوى السياسات العمومية والتنظيم والعمل القضائيين.
ومن جهة أخرى، والحزب يتابع مختلف المذكرات التي قدمت للهيئة، نسجل باستغراب شديد المنحى المنحرف الذي تجلى في المذكرة التي قدمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان يوم 20 دجنبر 2023، إلى الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، والمقترحات والتوصيات الغريبة عن ثوابت وهوية وقناعات المجتمع المغربي المسلم والمستفزة للشعور الوطني.
وهو ما يجعلنا وبكل موضوعية، وانطلاقا من المرجعية التي اعتمدتها المذكرة والمقترحات والتوصيات التي قدمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أمام مذكرة خارج الإطار والنص الدستوري، وخارج الثوابت الوطنية الجامعة والراسخة للأمة المغربية، وتعتمد وتنتصر دون قيد أو شرط وبطريقة ميكانيكية للمرجعية والتوصيات الكونية، حتى وإن خالفت أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها، والخطابات والتوجيهات الملكية، ومرتكزات الممارسة الاتفاقية للمملكة المغربية في مجال حقوق الإنسان، والتي ترفض وتتحفظ على جميع التوصيات المخالفة للشريعة الإسلامية وللثوابت الجامعة لبلدنا.
كما واصل الحزب متابعته للعمل الحكومي والبرلماني وتأكيد وتقوية مكانة ودور الحزب في موقع المعارضة، لاسيما في ظل العنوان الأبرز الذي ترسخ في الحالة السياسية العامة وهو التراجع والتردي السياسي والحزبي الذي تشهده البلاد، في ظل حالة من فقدان المصداقية السياسية عند من يَدَّعُونَ أنهم “تصدَّرُوا” تدبير الشأن العام، وعدم قدرتهم على تقديم نموذج من المناضلين النزهاء وعن مواجهة الانتظارات والاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية للمغاربة، وهو ما يهدد بفقدان رصيد ما تحقق بفضل الأوراش السياسية والإصلاحية والتنموية الكبرى التي شهدتها بلادنا.
وعلى المستوى الحقوقي، لابد من الإشادة عاليا بالانتصار الكبير الذي حققه المغرب بانتخاب بلدنا لأول مرة لرئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو ما يدل على المكانة المحترمة التي يتمتع بها المغرب على الصعيد العالمي، نتيجة مختلف الإصلاحات والمجهودات التي يبذلها في مجال حماية واحترام حقوق الإنسان، لكنه في الوقت نفسه يجعل مسؤوليتنا أكبر ويدعونا إلى بذل المزيد من الجهد لتكريس الحقوق والحريات الدستورية والحفاظ على المكتسبات الحقوقية وعلى مسار وسمعة ومكانة بلدنا في هذا المجال، وتجنب كل ما من شأنه أن يمس بهذا المسار وهذه السمعة والمكانة.
ويشكل هذا الانتصار مناسبة مواتية وفرصة سانحة لبث دينامية ونفس سياسي وحقوقي جديد وطي بعض القضايا وملفات المحكومين على خلفية بعض الاحتجاجات الاجتماعية والصحفيين والمدونين، بما يحصن المكتسبات والتراكمات التي حققتها بلادنا، ويرسخ حرية التعبير والصحافة والإعلام، ومختلف الحقوق والحريات الدستورية، ويعزز صورة بلادنا في المجال الديمقراطي والحقوقي، وفقا للروح التي جسدتها الرسالة الملكية السامية بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
وفي نفس الموضوع، نبه الحزب إلى مجموعة من القضايا التي تهم مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير وندد بالمنحى السِّلبي وغير الديمقراطي لتدبير شؤون الصحافة عبر اعتماد قانون تراجعي وغير دستوري يُعَيِّن أعضاء المجلس الوطني للصحافة، ونبه إلى الارتباك الحكومي في تدبير وحكامة مجموعة من الملفات الحساسة والتي تمس بمصداقية الدولة ومؤسساتها وتؤسس للتراجع في الثقة في العمل السياسي وعمل المؤسسات وتدبير الشأن العام والمس بمبادئه الراسخة، من مثل التعيينات الحكومية الأسبوعية في المناصب السامية، وتدبير ملف مباراة المحاماة، وتدبير برامج التشغيل (أوراش وفرصة وانا مقاول…) وغيرها من الملفات.
كما نبه الحزب إلى حالة التردي الإعلامي ونكوص المشهد السمعي البصري ولاسيما العمومي منه، وغيابه عن القضايا الأساسية والراهنة التي تشغل بال المواطنين والمواطنات، وتخلفه عن تجسيد دوره في خدمة التعددية السياسية والحزبية، وتراجع البرامج الحوارية وإقصاء الفاعلين السياسيين والحزبيين من الخدمات السمعية والبصرية العمومية والخاصة، وصيانة حق المواطن في الخبر وفي الرأي الآخر، وتراجع دورها في دعم الإنتاج الوطني وإشعاع الثقافة المغربية، والتمكين لرموز المس بالقيم المغربية ومرجعيتها، بما يجعلنا إزاء مشهد إعلامي يشتغل في تعارض مع الثوابت الدستورية والوطنية.
وبخصوص المجال الاجتماعي، واصل الحزب التنبيه ومواجهة السياسات الحكومية التي تمس بما حققته بلادنا لصالح الفئات الفقيرة والهشة؛ ودعا إلى ضرورة تسريع وضمان شفافية تنزيل برنامج إعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة من زلزال الحوز، ومراجعة برنامج الفوارق المجالية والاجتماعية وإعادة الصياغة والجدولة المالية والزمنية والمجالية لهذا البرنامج ليشمل باقي المناطق غير المستفيدة.
كما واصل متابعته اليقظة للسياسات الاجتماعية للحكومة والتنبيه في وقت مبكر للتوقيف المؤقت لدعم الأرامل على إثر قرار اعتماد السجل الاجتماعي الموحد، وإخراج ما يفوق 7 مليون مواطن من الاستفادة من نظام المساعدة الطبية “راميد” على إثر تحويل المستفيدين من هذا النظام إلى نظام التأمين الإجباري عن المرض “تضامن”، ودعا إلى تصحيح الوضع والحفاظ على الحقوق المكتسبة، كما تابع تنزيل الحكومة لورش تعميم الحماية الاجتماعية والدعم الاجتماعي المباشر، ونبه إلى الإشكاليات المرتبطة بالشروط والمساطر والعتبة العالية المعتمدة حاليا للاستفادة ونبه إلى ضرورة الحفاظ على الحقوق المكتسبة، وإلى غياب تصور واضح لضمان استدامة تمويل هذا الورش الاستراتيجي.
ولهذا، يؤكد الحزب خلال هذه المرحلة التأسيسية والانتقالية على الحفاظ على كل الحقوق المكتسبة للمستفيدين الحاليين من مختلف البرامج القائمة أو السابقة (راميد؛ الأرامل؛ تيسير، مليون محفظة، المنح الجامعية…) من خلال تسجيل المستفيدين تلقائيا في السجل الاجتماعي الموحد، وكذا الحرص على تصحيح المسار الخاطئ في تدبير عملية تحويل المستفيدين من نظام المساعدة الطبية “راميد” إلى نظام التأمين الإجباري عن المرض “تضامن” والذي يتم بفاتورة تفوق أربع مرات فاتورة استشفاء 60% من المستفيدين سابقا، حيث ترتب عن هذا التحويل تحمل الدولة لمبلغ سنوي قدره 9,5 مليار درهم لفائدة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقابل التكفل ب11 مليون مستفيد ومستفيدة فقط، في مقابل المبلغ السنوي الذي كانت تتحمله الدولة في السابق برسم نظام المساعدة الطبية “راميد”، والذي ورغم بلوغه أوجه في 2022، لم يتعد 2 مليار درهم ويستفيد منه 18,44 مليون مستفيد ومستفيدة.
وباعتبار أن إرساء مشروع تعميم الحماية الاجتماعية والدعم الاجتماعي المباشر يبقى مشروعا ملكيا ووطنيا كبيرا ممتدا في الزمن، والذي ما كان له أن يرى النور لولا توفيق الله عز وجل، ثم تبني جلالة الملك حفظه الله ودعمه له، ثم الإصلاحات الهيكلية الجريئة التي وفرت له الإمكانات المالية، وقد سبق أن شكل إحد عناصر البرنامج العام للحزب ودافع عنه الحزب باستماتة وشرع في تنزيله من موقعه في الحكومة عبر دعم الأرامل والمطلقات والزيادة المهمة في عدد المستفيدين وفي الميزانية المخصصة للمنح الجامعية، وتوسيعها لتشمل طلبة التكوين المهني، والزيادة في عدد المستفيدين وفي الميزانية المخصصة لبرنامج تيسير لدعم التمدرس…، فإن الحزب وهو يُقَدِّرُ هذا التوجه الاستراتيجي، يدعو إلى الانخراط في توفير شروط نجاحه، خاصة في ظل التحديات المرتبطة بمعايير الاستفادة، وعتبة الاستفادة المرتفعة، وتعبئة الموارد اللازمة للتمويل وضمان استدامتها، وتدبير العلاقة مع البرامج الأخرى، وحكامة هذا النظام، والشفافية والإنصاف المطلوبين، وهو ما يدعو إلى تعبئة وطنية شاملة لإنجاحه وضمان استدامته.
كما نَبَّه الحزبُ أيضا في وقت مبكر وعدة مرات إلى تخبط وارتباك الحكومة في تدبير ملف التعليم بكل أسلاكه في شقه البيداغوجي والبشري والمالي، مما أدَّى إلى أزمةٍ حادَّةٍ وبدون أفُقٍ أدخلت الحكومة إليها المدرسة العمومية ومعها الجامعة، بعد فرض خطة جديدة في قطاع التربية الوطنية تحت مسمى “خارطة الطريق 2022 – 2026″، ومسمى “المخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار- 2030″، في تجاهل تام للقانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وتهميش للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وكان من أولى نتائج خارطة الطريق هذه اعتماد نظام أساسي لموظفي التربية الوطنية لم يأخذ بعين الاعتبار وعود برامجها الانتخابية وبرنامجها الحكومي ونتج عنه توقف الدراسة لشهور ، وعوض سحبه لجأت الحكومة إلى المماطلة دون اعتبار لمستقبل 7 ملايين من الأطفال في المدرسة العمومية، وما سيخلفه هذ التوقف من آثار وتداعيات تتجاوز ما يظهر من نتائج بيداغوجية وتربوية آنية.
كما حذَّرَ الحزب من محدودية وقصور وضيق نظر الحكومة في تدبير ملفات الحوار الاجتماعي من خلال اعتمادها لمقاربة قطاعية ضَيِّقة ومُجَزَّأَة وغير مندمجة وغير مرتبة بشكل دقيق على المستوى الزمني والقطاعي والتواصلي، وبمنطق ومنهجية لا تستحضر في نفس الوقت إمكانيات الدولة وواجب الإنصاف والعدالة المطلوبين بين مختلف موظفي الدولة، وهو ما أدى في النهاية إلى فقدان الثقة في الحكومة وإفقاد وفقدان الثقة أيضا في النقابات، وهو ما أدى وسيؤدي إلى تزايد الاحتجاجات الفئوية وإلى بروز ظواهر يصعب معها إدارة الحوار الاجتماعي والقطاعي بشكل هادئ ومسؤول يراعي المصلحة العامة وإمكانيات الدولة ومصلحة عموم المواطنين والمواطنات وحقوق وواجبات هذه الفئات ويحفظ استمرارية المرافق والخدمات العمومية.
كما نبه الحزب عدة مرات إلى قصور ومحدودية وفشل السياسات والمقاربة الحكومية في معالجة موجة غلاء الأسعار وآثار الجفاف ودعم الفلاحين، عبر إعلان قرارات باعتمادات مالية ضخمة إما لا يتم صرفها، وإما يتم صرفها عبر قنوات لا تصل من خلالها إلى المواطنين المحتاجين والمعنيين مباشرة بقدر ما يستفيد منها كبار الفلاحين، ولا يكون لها أي أثر يُذْكر على الأسعار وعلى القدرة الشرائية للمواطنين.
وبخصوص موجة الجفاف الحادة التي تشهدها بلادنا للسنة الثانية على التوالي، وبالرغم من تصريحاتها بأن تدبير إشكالية نقص الموارد المائية يحظى بأهمية بالغة لديها وأنها سارعت منذ تنصيبها إلى التعامل بكل ما ينبغي من الحزم والمسؤولية لتسريع إنجاز مختلف المشاريع المهيكلة المتضمنة في البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020-2027، وتحميلها المسؤولية في كل مرة وكعادتها للحكومات السابقة إلا أن قوانين المالية المتتالية تُكَذِّبُ اهتمامَ الحكومة الحقيقي والملموس بهذا البرنامج الأولوي.
إذ أن الحكومة اضطرت إلى تدراك تأخرها وضعف استباقيتها بإجراءات استعجالية لتوفير التمويلات اللازمة وتسريع المشاريع الجارية، بعد التوجيهات الملكية بهذا الخصوص في خطاب جلالة الملك في 14 أكتوبر 2022 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة؛ ثم في 09 ماي 2023 خلال ترؤس جلالته لجلسة عمل لمتابعة البرنامج الوطني لإمداد مياه الشرب والري.
وعلى المستوى الاقتصادي، وعلى خلاف عمليات الدعاية التجميلية حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي، فإن الواقع ونحن على أعتاب نصف الولاية الحكومية، هو ما يجسده تكريس منطق زواج المال بالسلطة وتضارب المصالح واستغلال النفوذ ومواقع المسؤولية الذي ميز هذه الحكومة، مما أدَّى إلى انحسار الاستثمار الوطني باستثناء الاستثمارات المرتبطة ببعض أعضاء التحالف الحكومي، وتراجع الاستثمارات الأجنبية وارتفاع عدد مناصب الشغل المفقودة بشكل غير مسبوق وارتفاع معدل البطالة إلى نسب لم تشهدها بلادنا منذ سنة 2000، ومعها تفاقم عدد المقاولات المفلسة، وإرباك الحكومة بشكل غير مفهوم لبرامج التشغيل السابقة الناجحة من مثل برنامج انطلاقة وبرنامج المقاول الذاتي ومزاحمتها ببرامج جديدة تفتقد إلى الشفافية وإلى الفعالية من مثل فرصة وأوراش وأنا مقاول.
كما يبقى المؤشر الجلي لهذا الوضع المتردي هو تفاقم موجة الغلاء التي تشمل معظم المواد، والغذائية منها على وجه الخصوص، وفشل الحكومة الذريع في التخفيف عن المواطنين وقصور أدوات التدخل الحكومي في الحد من الارتفاع المهول والمستمر للأسعار، مما جعل الخيار الوحيد أمام المواطنين هو تقليص نفقاتهم والحد من الحاجيات الأساسية، بعد أن تُرِكُوا فريسةً للوضعيات الاحتكارية والجشع، وحالة التخبط الحكومي أمام جماعات المصالح وخاصة العاملة في قطاع المحروقات وسلاسل الوساطة والتصدير.
كما أن فلسفة ومنطق الحكومة وأغلبيتها في التعامل مع قوانين المالية، يكرس التمكين لفئات وجهات ومصالح بعينها على حساب المالية العمومية والفئات المتوسطة والهشة، وهو ما قدَّم قانون المالية لسنة 2024 بما تضمنه من إجراءات جُمركية وضريبية تجليا واضحا له وفق المسار الذي ظهر في قانون مالية 2023، والذي كرس الخطر الذي لطالما نبه له الحزب والمرتبط بزواج المال بالسلطة.
ويتجسد ذلك في اعتماد سياسيات غير منسجمة مع وعودها بخلق مليون فرصة شغل وتعويض الواردات بالمنتوجات المحلية وذلك من خلال تراجع الحكومة وإرباكها لمجموعة من البرامج الاقتصادية الداعمة للمنتوج الوطني وحماية الصناعة الوطنية ولفرص الشغل، وتراجع منسوب الشفافية والمنافسة الشريفة في الاقتصاد الوطني والصفقات العمومية وإشكالية تنازع المصالح وتكريس زواج المال بالنفوذ السياسي في صفقات ضخمة، وتأخر ومحدودية تدخل مجلس المنافسة، وتخلف الحكومة عن ورش محاربة الفساد وإقبارها للقوانين ذات الصلة والتي سحبتها منذ بداية الولاية التشريعية.
وبالإضافة إلى ذلك، وفي ظل هذا التخبط وزيادة الإنفاق وفي غياب الإصلاحات الضرورية، وبعد سنوات من المجهودات المضنية والمكلفة لاستعادة التوازنات المالية وضبط عجز الميزانية ومسار المديونية ببلادنا، ها هي المالية العمومية تتعرض لضغوطات كبيرة وغير مسبوقة تنذر بتعميق عجز الميزانية والمديونية، بسبب هذه الحكومة ومنهجيتها المتساهلة وغير المقروءة والتي توحي وضدا على قواعد المالية العمومية بأن الموارد المتوفرة لها غير محدودة، حيث تفتقد من جهة للجرأة في إنجاز الإصلاحات الحقيقية فيما يتعلق بالموارد بهدف تحصينها وتنميتها، ومن جهة أخرى، نجد الحكومة لا تبذل أي مجهود جدي لترشيد النفقات وخلق مساحات مالية جديدة تمكن من ضمان استدامة العديد من النفقات التي تبدو غير ممولة بطريقة مستدامة لحد الآن سواء ما تعلق منها بورش تعميم الحماية الاجتماعية أو بنفقات الحوار الاجتماعي أو العديد من المشاريع الاستثمارية المتعلقة بالماء والطاقات المتجددة.
كما أن السِّمَةَ الأساسية الأخرى للتدبير الحكومي الحالي هو ترك المواطنين فريسة للوبيات المصالح والمضاربة والجشع والإثراء غير المشروع، والتطبيع مع تضارب المصالح والريع، وعمق ذلك عدم انخراط الأغلبية الحكومية في تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول شبهات استيراد وتصدير النفط الروسي، وعدم تطبيق الحكومة للتوصيات الأولى لرأي مجلس المنافسة بخصوص الارتفاع الكبير لأسعار المحروقات قبل صدور قراره الأخير، وانتشار فضائح الفساد المالي والتدبيري في العديد من الجماعات الترابية وتوالي المحاكمات بها، في ظل استمرار نهج جديد على مستوى الجماعات الترابية، قائم على تضارب المصالح واستغلال النفوذ والرغبة في مراكمة الثروات على حساب مصالح المجتمع والمواطنين والمواطنات.
لقد أثبت قرار مجلس المنافسة ليوم 23 نونبر 2023 حول الممارسات المنافية للمنافسة بالسوق الوطنية للمحروقات، والاعتراف الصريح لهذه الشركات عبر قبولها بسلوك المسطرة التصالحية ، بما لا يدع مجالا للشك ما سبق ونبه إليها الحزب عدة مرات ودعا المجلس إلى القيام بأدواره الدستورية لمحاربتها، تواطؤ هذه الشركات وتفاهماتها على حساب المواطنين، وهو ما يستوجب من مجلس المنافسة إبقاء هذه الشركات ومنظمتها المهنية تحت المراقبة التلقائية والحثيثة واللصيقة بما يلزمها باحترام تعهداتها بتحسين السير التنافسي لسوق المحروقات والوقاية من مخاطر المساس بقواعد المنافسة، ويجبرها على تطبيق السعر العادل والاكتفاء بالربح المعقول، والتوقف عن مراكمة الأرباح الفاحشة على حساب المستهلكين والاقتصاد الوطني.
وفي سجل آخر ومثال صارخ لتضارب المصالح، جسد فوز فروع شركات تابعة للمجموعة الاقتصادية التي يملكها رئيس الحكومة بصفقة مشروع تحلية ماء البحر في الدار البيضاء؛ خطورة تنازع المصالح والجمع بين المال والنفوذ السياسي، كما أن الدفع في تخويل هذه الصفقة لهذه المجموعة بحجة دعم وتشجيع الشركات الوطنية والرأسمال الوطني، وهو التوجه الوطني الذي يدعمه الحزب ويشجعه على أساس احترام قواعد المنافسة الشريفة وعدم تركيز الاستفادة من الصفقات العمومية والدعم العمومي على مقاولات بعينها، باعتبار أن المغرب يتوفر على نخبة معتبرة من الشركات والمقاولات الوطنية المؤهلة والقادرة على خوض غمار مثل هذه الصفقات وتنفيذها كما يجب، وكان الأولى أن تتاح لها الفرصة عوض التضييق عليها ومزاحمتها من طرف شركات مملوكة لرئيس الحكومة.
كل الذي سبق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتدبيريا وعلى مستوى الحكامة، يجعلنا أمام حكومة مال وأعمال وتضارب مصالح في حالة مواجهة مفتوحة مع المجتمع بكل مكوناته الاجتماعية والاقتصادية، وبرلمان هَمُّه دعم هذه المواجهة والتغطية عليها وَالتَّلْوِيحُ الْمَرَضِيُّ في كل مرة بشمَّاعة حزب العدالة والتنمية لتبرير الفشل والعجز والتخبط، وهو ما سيتم تفصيل عناصره في هذا التقرير.
لقد كانت نضالية وفعالية الحزب في مختلف هذه القضايا عنوانا لصموده واستمراره في أداء أدواره الوطنية والدستورية ومواصلة العمل وتوجيه البوصلة إلى قضايا الوطن والمواطنين العادلة والمشروعة عبر القرب والإنصات للمجتمع، وهو ما يفنِّد اعتقاد خصوم الحزب والوطن بأن القِوَى الحية قد تم وَأْدُهَا بعد الانتكاسة الديمقراطية التي كرستها انتخابات 8 شتنبر 2021، وأن بإمكانهم الاستفراد والاستحواذ على خيرات البلد ومؤسساته واستباحة أمواله العمومية دون حسيب أو رقيب.
وانطلاقا مما سبق فإن هذا التقرير السياسي، والذي يأتي بعد أزيد من سنتين من انتخابات 08 شتنبر 2021، والتي اتَّضَحَت فيها الصورة أكثر، يمثل أرضية لإطلاق عملية الإعداد التصوري والسياسي والتنظيمي للمؤتمر الوطني العادي التاسع للحزب؛ وتعزيز وتقوية أداء الحزب من موقع المعارضة القوية والمسؤولة؛ والاستعداد الجيد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، لمعالجة مخلفات انتخابات 08 شتنبر 2021 وتصحيح المسار الديمقراطي ببلادنا وإعادة الاعتبار للفعل وللفاعل السياسي والحزبي، ومعالجة آثار السياسات الحكومية الفاشلة التي نجمت عنها؛ وتدهور وانتكاسة الديمقراطية والحكامة والتنمية الترابية بشكل غير مسبوق وغير مألوف في تاريخ الجماعات الترابية ببلدنا.
أولا- المستوى الخارجي: تحولات وتحديات
ألف- القضية الفلسطينية ومواجهة التطبيع
إن ما وقع ويقع منذ طوفان الأقصى في 07 أكتوبر 2023، في غزة وعموم فلسطين المحتلة، يرقى إلى مرتبة المعجزة التي أحيت الأمة العربية والإسلامية وأيقضت الضمير الإنساني الشعبي العالمي، وبعثت روحا جديدة في الشعوب عبر العالم، وفرضت على نخب الأمة وقواها الحية استشراف مرحلة جديدة في تاريخ الأمة وتحمل المسؤولية في رفع تحدياتها وتحررها من ربقة التحكم العالمي والتوصيات والأجندات الغربية والخارجة عن مرجعية الأمة وهويتها الحضارية الأصيلة والتي تبتغي إبقاءها تحت نير التبعية والتخلف.
إن ما حصل هو من صنف الأحداث الكبرى والمنعطفات الحاسمة في تاريخ البشرية، ويجعلنا نتساءل عما هو الأساس الذي بنيت عليه هذه المقاومة الباسلة وهذا الصمود الأسطوري؟ باعتبار أن الأمر يتجاوز مجرد التحضير الجيد من قبل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، إلى ما شكلته المرجعية الإسلامية والوطنية والسعي إلى التحرير من ربقة الاستعمار من فارق في بناء المقاوم الفلسطيني المستعد للتضحية بالنفس في سبيل تحرير الأرض والدفاع عن المقدسات، والإنسان الفلسطيني، الذي صمد طيلة أشهر وبقي صامدا في مواجهة آلة الحرب والدمار والإبادة الصهيونية والحصار والتجويع ووفيا للمقاومة ومؤمنا بها ورافضا للتهجير والاستسلام أو القبول بالهزيمة، كما أن حال الأمة في عمومه كان ردا إيجابيا تقبل فعل المقاومة بقبول حسن، كما أن شعوب العالم انحازت وبطريقة جديدة وغير مسبوقة لصالح الشعب الفلسطيني وتحول رأيها في الاحتلال الصهيوني ووعت طبيعته العدوانية والاحتلالية وخطره على الأمن والاستقرار، رغم أن حكوماتها وقفت بدون قيد أو شرط مع العدوان الصهيوني، وانخرط بعضها في المشاركة المباشرة والميدانية في الحرب عبر الدعم الاستخباراتي والعسكري والبشري والمالي.
إن ما يجري في غزة وفلسطين هو تعبير عن حركة تاريخية وحضارية كبرى، وانحيازنا إلى جانب أشقائنا في فلسطين هو انحياز تفرضه حقوق الأخوة والدين والإنسانية لجانب الحق الفلسطيني الثابت وغير القابل للتصرف في تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهو انحياز ضد تحالف قوى الاستعمار إلى جانب الاحتلال الصهيوني الإحلالي النازي، وهو انحياز لمقاومة مشروعة ضد الاحتلال الغاصب، تحكمه وتحركه الشرائع والقيم والمبادئ الدينية والأخلاقية والقوانين الدولية والإنسانية التي انتصرت لها دائما البشرية في جانبها المضيء عبر تاريخها.
لقد حضرت وبقوة معركة طوفان الأقصى وتطوراتها في أجندة الحزب وهيئاته منذ السابع من أكتوبر الماضي، وبرز ذلك في البيانات المتلاحقة للأمانة العامة ومبادراتها سواء في تنظيم مهرجان وطني بالرباط يوم 19 نونبر 2023، أو في الانخراط في المسيرة الوطنية والشعبية يوم 10 دجنبر 2023 أو عبر مشاركة مناضليه ومناضلاته في مختلف الوقفات والمسيرات والفعاليات التضامنية مع الشعب الفلسطين المنظمة عبر تراب المملكة والمنددة بحرب الإبادة الجماعية الإجرامية التي يقترفها العدو الصهيوني والمطالبة بوقف التطبيع، وهي مناسبة للتأكيد على ما يلي:
⦁ فلسطينيا:
إن العملية البطولية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية الباسلة بقيادة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” تحت عنوان “طوفان الأقصى” يوم 07 أكتوبر 2023 هي جواب طبيعي ومشروع في مواجهة الاحتلال العنصري والاستيطاني الصهيوني وسياسات الحكومة الصهيونية العنصرية المتطرفة، وعلى ما يقوم به المستوطنون والمسؤولون الصهاينة من اقتحام وتدنيس للمسجد الأقصى المبارك وتسارع خطواتها للسيطرة عليه وضمه، وإفراغ الفلسطينيين وتهجيرهم، والإمعان في استفزاز مشاعر الفلسطينيين والمسلمين قاطبة بتنظيم الاحتفالات الصهيونية الضخمة في الحرم المقدسي، وهو ما لا يمكن السكوت عنه والقبول به أبدا.
إن مقاومة الاحتلال، بكل الأشكال والوسائل، هو حق مشروع تضمنه الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، والإرهاب الحقيقي هو ذلك الذي يمارسه منذ عقود الاحتلال الصهيوني العنصري على مرأى ومسمع من العالم وبدعم من الدول الكبرى، والذي افتضحت همجيه ونازيته طيلة الأشهر الماضية من استهداف مباشر وعن عمد وبإصرار للأطفال والخدج والنساء والمستشفيات والأطقم الطبية والمدارس والمساجد والكنائس، وانتهاج حرب إبادة وتهجير وتقتيل وتطهير عرقي، وفرض حصار كامل ومطبق على قطاع غزة، وهو ما يجسده أيضا تصريحات المسؤولين الصهاينة والتي ترقى إلى جرائم حرب وهم يحرضون علنا على إبادة الفلسطينيين بالسلاح النووي ويعتبرونهم حيوانات بشرية.
إن صمود المقاومة الأسطوري وصبر وثبات الشعب الفلسطيني بغزة وباقي الأراضي المحتلة ووفائهم الثابت للمقاومة واعتزازهم بأدائها بالرغم من وحشية وهمجية وحرب الإبادة والحصار الظالم على الشعب الفلسطيني من طرف العدو الصهيوني مدعوما بقوى الاستكبار العالمي، هو نقلة نوعية في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وتأسيس لمرحلة مجيدة في تاريخ الأمة ككل وإحياء لها، وهو بذلك دليل على السبيل الأنجع في تحرير الأرض والحفاظ على المقدسات ومواجهة العدو ودعوة لكل الفصائل الفلسطينية، دون استثناء، إلى الوحدة ورص الصفوف في هذه المرحلة الدقيقة في مواجهة الاحتلال الصهيوني لخوض معركة التحرير والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وقد أبرزت المقاومة الفلسطينية الباسلة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام؛ وإخوانهم في سرايا القدس؛ وفي باقي فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية، بأدائهم البطولي وثباتهم الأسطوري في مواجهة الكيان الصهيوني الغاشم وآلة الحرب والتقتيل والتدمير الصهيونية في حرب إبادة غير متكافئة، مدى جبن وهشاشة وحجم هزيمة واندحار العدو الصهيوني، وأكدت للعالم أجمع الطبيعة الدموية والوحشية لهذا الكيان النازي، الذي يواصل مجازره ووحشيته وانتهاكاته الجسيمة وتجاوزاته السافرة للقرارات الأممية وللقوانين الدولية وللقيم الإنسانية، والتي خلفت الشهداء والشهيدات بالآلاف في صفوف المدنيين، وأغلبهم من الأطفال والنساء، وبلغت حد التنكيل بالمدنيين النازحين وإذلالهم وإهانتهم، فضلا عن أنها دمرت الآلاف من المنازل والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، وفرضت حصارا شاملا على غزة، ومنعت عنها الماء والغذاء والوقود والدواء وكل وسائل العيش في حدودها الدنيا.
كما بلغ حجم جبن وعجز وهزيمة العدو الصهيوني النازي في مواجهة المقاومة الفلسطينية الباسلة في الميدان على أرض غزة الصامدة أَوْجَهُ، ولجأ العدو الصهيوني الغاشم إلى عملية إرهابية جبانة وغادرة خارج تراب غزة وقام باغتيال القيادي الكبير بحركة المقاومة الإسلامية حماس، المجاهد الشيخ صالح العاروري، ومجموعة من إخوانه في القسام، كما برز عجز العدو الصهيوني وجبنه في الاغتيالات المتتالية للصحفيين لا لشيء إلا لأنهم فضحوا بكل تضحية ومهنية وجهه الهمجي والوحشي، وادعاءاته الكاذبة بحرصه على تجنب المدنيين، وأفشلوا مخططاته في حجب طبيعته الدموية والتغطية على جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها في حق المدنيين الأبرياء كل يوم، حيث بلغ عدد الصحفيين الذين استهدفهم واغتالهم الجيش الصهيوني أزيد من 100 صحفي وصحفية، وبلغت به الدموية والوحشية حد استهداف عائلاتهم، وقام بإبادة عائلة الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح عن آخرها أمام مرأى ومسمع من العالم.
وهي كلها عمليات وحشية وجبانة ويائسة لن تزيد المقاومة الفلسطينية الباسلة إلا ثباتا وإصرارا على مواصلة أهدافها، والتحامها بالشعب الفلسطيني البطل على طريق تحرير الأرض وفي سبيل نيل حقوقه الكاملة، وعلى رأسها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
⦁ عربيا وإسلاميا:
إن هذه الحرب أبانت عن هشاشة وضعف الوضع العربي والإسلامي وتخاذل ومحدودية وقصور تدخل الدول العربية والإسلامية وضعف مواقفها في مواجهة العدو الصهيوني بلغ مستوى عدم القدرة على إدخال المساعدات الإنسانية ورفع الحصار المضروب على غزة، كل ذلك سببه التفكك والتنافر والشقاق والنزاع الذي أصبح عنوان الوضع العربي والإسلامي ووسم العلاقات العربية والإسلامية البينية، وهو ما يدعو إلى ضرورة مراجعة شاملة ورص الصفوف وتوحيد الكلمة وتجاوز الخلافات بما يعزز مكانة الأمة العربية والإسلامية ويرفع كلمتها ويحفظ استقلالها وسيادتها ومصالحها الاستراتيجية وكرامة شعوبها.
إن ما أبان عنه العدو الصهيوني من انتهاك لكل المواثيق والاتفاقيات والقوانين الدولية والإنسانية واحتقار للإنسان العربي والمسلم ودوسه على ما سمي باتفاقيات أبراهام، وهو يمارس مجازر يومية وجرائم حرب وإبادة جماعية غير مسبوقة في حق المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، يدعو الدول العربية والإسلامية إلى مراجعة نظرتها لهذا الكيان الغاصب واتخاذ مواقف صارمة اتجاهه من خلال الإيقاف النهائي لمسار التطبيع، والتراجع عن كل الاتفاقيات والتمثيليات وقطع كل علاقات الاتصال والتواصل معه، حيث لم يعد مقبولا لا سياسيا ولا أخلاقيا ولا تحت أي عنوان أو معنى الاستمرار في هذه العلاقات مع هذا الكيان الاستعماري العنصري المجرم.
⦁ دوليا:
إن مواقف الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية واصطفافها اللامشروط والظالم إلى جانب الاحتلال الصهيوني وازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين التي تطبع مواقف هذه الدول كل هذا لن يجدي نفعا ولن يحقق الاستقرار والأمن الدوليين ولن يوقف المقاومة بل إنه على العكس يؤجج مشاعر السخط والغضب ويورث المقاومة جيلا بعد جيل، وإن الدول الغربية تتحمل بهذا المسؤولية المادية والأخلاقية والمعنوية كاملة عما يجري من استمرار الاحتلال وما يقترفه من مجازر وتقيتل وإبادة جماعية، وإن تواطؤها مع الكيان الصهيوني لما يفوق 75 سنة هو أحد الأسباب الحقيقية لما جرى ويجري حاليا، وهو ما لن يتوقف بدون إنصاف الشعب الفلسطيني وتمكينه من حقوقه كاملة.
إن الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص تتحمل المسؤولية المادية والمعنوية الكاملة والمباشرة والأولى وهي تتدخل بطريقة مباشرة وميدانية في حرب الإبادة الجارية في غزة وترفض أي محاولة دولية لوقف العدوان عليها وتعطل باستخدامها اللاأخلاقي في كل مرة لـ “حق” النقض ضد قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بالرغم من تحريك الأمين العام للأمم المتحدة للمرة الأولى ومنذ عقود للفصل 99 من ميثاق الأمم المتحدة لينبه مجلس الأمن أن ما يقترفه العدو الصهيوني بلغ حدا غير مسبوق أصبح يهدد حفظ السلم والأمن الدوليين.
⦁ وطنيا:
لقد بادر جلالة الملك حفظه الله، رئيس لجنة القدس، بإرسال مساعدات إنسانية عاجلة للفلسطينيين، مؤكدا في عدة مناسبات على التزام المغرب الثابت والمتواصل بدعم القضية الفلسطينية، سواء في خطابه السامي أمام الدورة الاستثنائية للقمة المشتركة لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية في 11 نونبر 2023 بالرياض، أو في رسالته السامية الموجهة بتاريخ 29 نونبر 2023 إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه غير قابلة للتصرف، بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
وقد تضمنت كلها رسائل واضحة في تأكيد جلالة الملك حفظه الله على موقف المغرب الثابت والراسخ بخصوص عدالة القضية الفلسطينية ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، والتأكيد على ضرورة الحفاظ على الطابع الفريد لمدينة القدس، وعلى عدم المس بوضعها القانوني والحضاري والتاريخي والديمغرافي. وكذا تنبيه جلالته إلى أن الوضع الحالي في فلسطين هو نتيجة حتمية لانسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية، وأنه نتاج لتنامي الممارسات الإسرائيلية المتطرفة والمُمنهجة، والإجراءات الأُحادية والاستفزازات المتكررة في القدس، التي تُقَوِّضُ جهود التهدئة وتنسف المبادرات الدولية الرامية لوقف مظاهر التوتر والاحتقان ودوامة العنف المميتة.
كما أظهر الشعب المغربي كعادته التزامه الثابت والراسخ في دعم القضية الفلسطينية من خلال فعالياته التضامنية المتواصلة دعما للمقاومة الفلسطينة الباسلة والمنددة بالاحتلال الصهيوني ومجازره الهمجية والمطالبة بوقف التطبيع، ولم تُفلح بالرغم من محاولاتها البئيسة بعض الأصوات النشاز التي تدافع دون حياء ولاضمير إنساني ولا أخلاقي عن جرائم الاحتلال البشعة وتصطف إلى جانبه تحت شعار مخز “نحن إسرائيليون”!، أن تشوش على المواقف الراقية لجلالة الملك وللشعب المغربي في دعم الشعب الفلسطيني، والتي يعترف بها عاليا ويثني عليه كثيرا الفلسطينيون بكل أطيافهم وفصائلهم وعلى رأسهم قيادات حماس.
⦁ حزبيا:
إن الحزب وأمام هول ما يقترفه العدو الصهيوني الغاصب في حق أشقائنا في غزة والضفة الغربية والقدس الشريف والأقصى المبارك، ونقضه لكل المبادئ والقيم والقوانين والاتفاقيات، دعا انطلاقا من واجبه الديني والأخوي والإنساني إلى قطع جميع علاقات الاتصال والتواصل والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب وإغلاق ما سمي بمكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط وطرد جميع ممثليه بشكل رسمي ورئيسه الذي تجرأ بتوعد المقاومة بضرب التجمعات السكنية للمدنيين بزعم أنها تُتَّخَذُ كذروع بشرية، وتحريض المجتمع الدولي عليها من قلب الرباط في انتهاك وتجاوز لكل الأعراف وفي تحد للشعور الوطني والمواقف المغربية الرسمية الثابتة من القضية الفلسطينية.
كما أنه وتطبيقا للموقف المبدئي للحزب الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني، صوتت المجموعة النيابية للعدالة والتنمية بمجلس النواب ضد الاتفاق بشأن التعاون الاقتصادي والتجاري؛ والاتفاق بشأن الخدمات الجوية؛ بين المغرب والكيان الصهيوني، كما رفضت العضوية فيما سمي “لجنة الصداقة البرلمانية المغربية – “الإسرائيلية””؛ ودعت إلى حلها.
كما عبر الحزب عن استنكاره الشديد لزيارة “رئيس الكنيسيت بالكيان الصهيوني” لمجلس النواب المغربي، واعتبر هذه السابقة الخطيرة تشكل – بما للبرلمان من قيمة رمزية باعتباره يمثل سيادة الأمة ويعبر عن الإرادة الشعبية – استفزازا لمشاعر الشعب المغربي وإساءة واضحة لمواقفه الثابتة الرافضة للتطبيع مع هذا الكيان المحتل، ولمختلف جهود المغرب والمغاربة في الدفاع عن فلسطين والقدس والتضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق ونصرة مقاومته الوطنية.
ولقد أثبت طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني والتطهير العرقي في غزة وكل فلسطين؛ كيف يستغل الكيان الصهيوني بمكر وخبث هذه العلاقات وما سمي باتفاقيات “أبراهام” والتطبيع مع بعض الدول العربية، كذريعة ليغطي على جرائمه، إلى حد أنه يدعي ويسرب بخبث أن هناك من الدول العربية من يوافقه سرا على القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة.
ومن جهة أخرى، وجب تجديد التأكيد على دعم الحزب القوي والكامل للمقاومة الفلسطينية الباسلة وهي تقود حرب التحرير في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب، ووقوفه وقفة تقدير وإعجاب وإجلال أمام صبر وثبات وصمود الشعب الفلسطيني البطل في غزة وفي كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، رغم العدوان الوحشي والحصار الشامل والظالم والقصف الصهيوني الهمجي، والتحامه الأسطوري مع المقاومة الباسلة وإفشاله لكل مخططات الترويع والتخويف والتهجير.
باء- القضية الوطنية ومواجهة الاستفزاز الانفصالي
وعلى مستوى قضيتنا الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية، وما شهدته هذه السنة من تطورات دالة على طريق الحسم النهائي لهذا الملف في إطار المسار الوحيد المعتمد داخل الأمم المتحدة انطلاقا من المقترح المغربي للحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية تحت سيادة المغرب ووحدته الترابية، نؤكد على ما يلي:
⦁ إن ما يقع حاليا في فلسطين هو رسالة واضحة في أن قدر هذه الأمة هو الوحدة وأن مشاريع التجزئة والتقسيم لم تأت منذ عشرينيات القرن الماضي إلا بالخيبات المتتالية للأمة العربية والإسلامية حيث تخدم وتسهل سياسات التدخل الأجنبي والتحكم في أمتنا ومقدراتها، وتضرب استقلال القرار الوطني وتسهل استغلال خيرات الأمة، وهي مناسبة لتوجيه نداء جديد لقادة الانفصال ورعاتهم بالجزائر بطي هذه الصفحة ولم الشمل والتوجه نحو المستقبل.
⦁ إن قرار الأمين العام للأمم المتحدة في أكتوبر 2023 وتقريره إلى مجلس الأمن ثم زيارة مبعوثه الشخصي للمنطقة ووقوفه على الواقع الفعلي والمتواصل لتنمية الأقاليم الصحراوية من المملكة والمجهود الوطني المبذول لتحقيق تقدمها واندماج ساكنتها في تدبير شؤونهم، مقابل تفاقم أزمة وورطة الطرح الانفصالي داخل مخيمات تندوف كلها مؤشرات تؤكد صواب النهج المغربي في تدبير هذا النزاع الإقليمي المفتعل، وتعزز الحاجة إلى تقوية الجبهة الوطنية الداخلية لصيانة المكتسبات ورفع مستوى التصدي لسعار الانفصال ومحاولاته اليائسة.
⦁ إن قرار محكمة الاستئناف بلندن الصادر بتاريخ 25 ماي 2023، المؤيد للقرار السابق للمحكمة الإدارية، والذي رفض بشكل نهائي الاستئناف الذي سعت من خلاله جهات داعمة للانفصاليين إلى إبطال اتفاقية الشراكة بين المغرب وبريطانيا بدعوى شمول مجال تطبيقها للأقاليم المغربية الصحراوية المسترجعة، يشكل قرارا آخر في مسلسل الإخفاقات المتتالية للجهات المعادية لوحدتنا الترابية ولعدالة قضيتنا الوطنية الأولى.
⦁ للأسف، تبقى مواقف حكام الجزائر وتماديهم في العداء المجاني والتصريحات الاستفزازية ضد المغرب، بلغت حد نزوعهم إلى تحذير أشقائنا في الجزائر من التواصل مع أشقائهم وزملائهم المغاربة، مواقف عدوانية ومتأخرة، في مقابل السياسة الحكيمة لجلالة الملك اتجاه الأشقاء في الجزائر وتأكيده على أن المغرب لن يكون سببا في أي ضرر يلحق الشعب الجزائري وتجديده لسياسة اليد الممدودة.
وفي هذا الصدد، ونحن نعيش أجواء الذكرى الثمانين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، والتي أعطت شرارة انطلاق المقاومة الوطنية التي مكنت بفضل الله، ثم بفضل التحام وثورة الملك والشعب والحركة الوطنية، من طرد الاستعمار الفرنسي وتحقيق الحرية والاستقلال، وهي ذكرى خالدة وملهمة باعتبار أنها تثبت أن معركة الحرية والسيادة الوطنية والترابية وتحقيق التنمية والاستقرار هي معركة مستمرة وضمانة الانتصار فيها، بعد الله سبحانه وتعالى، تكمن في تشبت الشعب المغربي بثوابته الوطنية الجامعة ووحدة ووحدة جبهتنا الداخلية، والاعتماد على مقدراتنا ومؤهلاتنا الذاتية، والإرادة المشتركة بين جلالة الملك أمير المؤمنين، باعتباره رمز الأمة وضامن وحدتها واستقرارها، والشعب المغربي الأصيل، المعتز بدينه وهويته وتاريخه والمستعد لبذل الغالي والنفيس في سبيل الحرية والعزة والكرامة، وقواه الوطنية الحية والمخلصة.
ثانيا- المستوى الوطني: تحديات واستحقاقات
ألف- ورش إصلاح مدونة الأسرة وصيانة المرجعية الإسلامية للمغرب
لقد تابع الحزب هذا الملف منذ بداية سنة 2022، بالنظر لما كان يعلن عنه من مواقف من طرف أحد مكونات الأغلبية الحكومية بخصوص نظام الأسرة ببلادنا ورئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فضلا عن التقارير والتوصيات الدولية الموجهة إلى بلادنا والداعية الى إحداث تغييرات عميقة في كل من مدونة الأسرة والقانون الجنائي، وذلك في اتجاه القضاء على سمو المرجعية الإسلامية وعلمنة نظام الأسرة وخدمة سياسات تفكيكها وإضعافها وتحقيق ما تم الفشل فيه قبل حوالي عشرين سنة، لذا فإن أحد استحقاقات هذه المرحلة التي وجهت عمل الحزب هو التصدي لهذا التوجه والتنبيه إلى مخاطره وتعبئة القوى الوطنية والمجتمعية من أجل ذلك، وفي هذا الصدد ينبغي التأكيد على ما يلي:
⦁ تثمين التوجيهات الملكية السامية في تأطير هذه المراجعة باحترام المرجعية الإسلامية، والانطلاق من مقاربة تنبني على الأسرة، وتعميق التشاور حول هذه المراجعة بما يخدم المصلحة الحقيقية للمجتمع والأسرة ومكوناتها، حيث دعا جلالة الملك حفظه الله إلى مواصلة التشبث بالقيم المؤسسة للهوية الوطنية الموحدة، والمتمثلة في القيم الدينية والروحية، وفي مقدمتها قيم الإسلام السني المالكي، القائم على إمارة المؤمنين؛ والقيم الوطنية التي أسست للأمة المغربية، القائمة على الملكية؛ وقيم التضامن والتماسك الاجتماعي، بين الفئات والأجيال والجهات، التي جعلت المجتمع المغربي كالبنيان المرصوص، وأكد جلالته على أن هذه القيم تقدس الأسرة والروابط العائلية، باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع، وحرصه على توفير أسباب تماسكها باعتبار أن المجتمع لن يكون صالحا إلا بصلاحها وتوازنها، وأنه سيفقد البوصلة إن هي تفككت.
⦁ التأكيد على أن التوجيهات الملكية كفيلة بجعل ورش مراجعة المدونة ورشا مثمرا يحفظ بإذن الله تعالى للمغرب استقلال قراره الوطني إزاء محاولات استهداف الأسرة، وعمليات السعي لتفكيكها وتحطيمها، كما سيمكن بلادنا من إنجاز إصلاح حقيقي وفقا لمرجعية وهوية المجتمع المغربي، وليس استجابة لإملاءات خارجية كما تسعى لذلك جهات تبتغي من جعل هذا الورش محطة لسلخ المغرب عن هويته وقيمه ومرجعيته الإسلامية السنية المالكية.
ومن جهته، انخراط الحزب في هذا الورش من خلال إحداث لجنة خاصة وتقديم مذكرته في الموضوع أمام الهيئة المكلفة بإعداد تعديل مدونة الأسرة، والتي انطلق فيها من مرجعية واضحة تمثلت أولا في المرجعية الإسلامية، والاجتهاد في إطارها لحل المشكلات الحقيقية وفي الوقت نفسه رفض كل مس بما هو قطعي صريح فيها، وثانيا من الثوابت الدستورية التي تعتبر الأسرة نتاج زواج شرعي وتربط إعمال الاتفاقيات الدولية بأن يكون ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت الأمة، ثم ثالثا على أن تحترم التعديلات المرتقبة التأطير والتوجيهات الملكية السامية، باعتبار تأكيد جلالة الملك أمير المؤمنين، غير ما مرة، على: “فإننا، بصفتنا أمير المؤمنين، لا يمكننا أن نحل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحله جل وعلا.”، ثم رابعا من المرجعية القائمة على النظر في المصلحة الحقيقية للمجتمع والاحتكام إلى الاختيارات المعبرة عن الإرادة الشعبية في قبول الإصلاحات أو المراجعات، وأن لا تصادم شعور وقناعات المجتمع المغربي المسلم، والتي ما فتئت نتائج مختلف استطلاعات الرأي تبين توجهه القوي والراسخ وتشبته بالمرجعية الإسلامية والهوية المغربية.
⦁ واعتبر الحزب أن إصلاح مدونة الأسرة يتطلب معالجة الاختلالات الحقيقية التي أفرزها التطبيق الميداني والقضائي للمدونة والمتمثلة بالأساس في النسبة الكبيرة والمتزايدة التي تشكلها قضايا الأسرة من مجموع القضايا المدنية المسجلة بمحاكم المملكة؛ والتراجع الكبير في الزواج؛ وتفاقم حالات التفكك الأسري الناجم عن الطلاق والتطليق؛ واحتلال الطلاق الاتفاقي والتطليق للشقاق الصدارة في حالات فسخ العلاقة الزوجية، وارتفاع عدد قضايا النفقة والحضانة المعروضة على المحاكم؛ وكلها اختلالات تقوض وحدة واستقرار وتماسك الأسرة وتضيع حقوق كل مكوناتها نساء ورجالا وأطفالا.
⦁ وإلى جانب ما سبق، انطلق الحزب أيضا من فشل نموذج الأسرة في الغرب وأن السعى لاستنساخه هنا مآله الفشل، ولهذا كان الحزب صريحا في مواجهة المنطق القائم على تعقيد الزواج وتأخيره وعوضا عن ذلك إباحة ما يسمى زورا “العلاقات الرضائية” وهي الزنا المحرم أو رفع التجريم عن العلاقات الجنسية الشاذة أو الخيانة الزوجية، كما كان صريحا في رفض حذف المادة 400 من مدونة الأسرة القائمة على تأكيد اللجوء إلى المرجعية الإسلامية في حالة الفراغ التشريعي، كما رفض الحزب عدم السماح برفع دعاوى ثبوت الزوجية، أو المس بالاحكام القطعية لنظام الإرث، أو القبول الزواج مع غير المسلم تحت دعوى المساواة، أو إباحة الإجهاض تحت مسمى حرية التصرف في الجسد.
⦁ في المقابل تقدم الحزب بمقترحات دالة ونوعية لخدمة مؤسسة الأسرة وإنصاف المرأة وخاصة لتيسير الزواج والحد من حالات الطلاق والتطليق والحفاظ على حقوق الأطفال من خلال مقترحات تعالج العجز والتخلف عن أداء النفقة وإقرار حد أدنى للزواج دون سن الأهلية، أو عدم السماح بتشريد الزوجة وبناتها دون مس بحق العصبة، أو إقرار ضمانات فعلية لممارسة الام المطلقة لحضانتها أو ولايتها على الأطفال وحمايتها من التعسف والشطط في استعمال الولاية الشرعية، وحق الأرملة في معاش زوجها في حالة زواجها، أو عدم سقوط حضانتها عند الزواج مرة أخرى، وإقرار المسؤولية المدنية التقصيرية للمتسبب في الحمل غير الشرعي، واعتماد قاضي الصلح وتقوية هذه المؤسسة في مواجهة ارتفاع نسب الطلاق، وغيرها من التعديلات االنوعية.
⦁ حيث قدم الحزب 44 مقترحا موزعا على ثلاث مستويات، تضم 11 مقترحا بخصوص المطالب التي يرفضها الحزب رفضا تاما باعتبارها لا تحترم ولا تلتزم بهذه المرجعية والمرتكزات؛ و12 تعديلا تشريعيا يقترحها الحزب بالنظر للاختلالات القضائية والقانونية التي كشف عنها تطبيق المدونة؛ و21 مقترحا بخصوص الإجراءات الداعمة على مستوى السياسات العمومية والتنظيم والعمل القضائيين.
ومن جهة أخرى، والحزب يتابع مختلف المذكرات التي قدمت للهيئة، نسجل باستغراب شديد المنحى المنحرف الذي تجلى في المذكرة التي قدمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان يوم 20 دجنبر 2023، إلى الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، والمقترحات والتوصيات الغريبة عن ثوابت وهوية وقناعات المجتمع المغربي المسلم والمستفزة للشعور الوطني، والمتجاوزة لكل الحدود والمرجعيات الوطنية المتمثلة في المرجعية الإسلامية باعتبار أن المغرب دولة إسلامية، وأن الإسلام دين الدولة، وأن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها؛ والمقتضيات الدستورية ذات الصلة المباشرة بتعريف الأسرة والمحددة لنطاق الانفتاح على الاتفاقيات والمواثيق الدولية، والخطابات والتوجيهات الملكية السامية لجلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين، بأنه لا يمكنه أن يحل ما حرم الله ولا أن يحرم ما أحله الله؛ وتأكيده على ضرورة التشبث بالقيم الوطنية الجامعة، ومكونات الهوية المغربية الأصيلة وأولها القيم الدينية والروحية، وفي مقدمتها قيم الإسلام السني المالكي، القائم على إمارة المؤمنين؛ وحصر جلالته لنطاق التعديلات المرتقبة في إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة.
ومن خلال قراءة متأنية لهذه المقترحات والتوصيات، والمبررات المعلنة للدفاع عنها، تتبين مجموعة من الخروقات والتجاوزات الخطيرة سواء من حيث منهجية وشكل بلورة واعتماد مذكرة المجلس، أو من حيث المرجعية والخلفية الفكرية التي حكمت هذه المقترحات والتوصيات والتي اتسمت باعتمادها على مرجعية وخلفية فكرية غريبة عن ثوابت ومرجعية الدولة والمجتمع المغربي.
فمن حيث منهجية وشكل بلورة واعتماد المذكرة، تجاهل المجلس كونه مؤسسة تعددية ومستقلة يفترض فيها أن تسهر على حماية حقوق الإنسان ومن ضمنها حقوق أعضائها، حيث تم تمرير التوصيات والمقترحات والمصادقة عليها بشكل لا يراعي التعددية ولا يتقيد بقواعد الديمقراطية والشفافية الذي يفترض أن تؤطر عمل مؤسسة دستورية وطنية، حيث اكتفت المذكرة بالإشارة إلى “النقـاش التفاعلـي للجمعيـة العامـة المنعقدة بتاريـخ 16 يونيـو 2023″، و “مصادقـة الجمعيـة العموميــة للمجلــس علــى مشــروع المذكــرة بعــد مناقشــتها والتــداول بشــأنها وإغنائهــا خــلال دورتهــا المنعقدة يــوم 20 دجنبــر 2023″؛ وهو نفس اليوم الذي قدم فيه المجلس المذكرة إلى الهيئة، وهو ما يعني عدم احترام حق أعضاء الجمعية العمومية للمجلس في الاطلاع المسبق والوافي عليها، وحقهم في مناقشتها مناقشة حقيقية، وفي تعديلها قبل المصادقة عليها، حيث عرضت المذكرة على الجمعية العمومية في نفس اليوم الذي قدمت فيه إلى الهيئة.
ومن حيث موضوع مقترحات وتوصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وبعرضها على الثوابت والمرجعية الوطنية المؤطرة لإصلاح مدونة الأسرة، والمقتضيات الدستورية المؤطرة لعمل المجلس، يتضح أن كل هذه المقترحات والتوصيات -وبدون استثناء- محكومة بهاجس واحد وهدف واحد وتنتظم ضمن خيط ناظم واحد وهو تحقيق المساواة الميكانيكية الكاملة بين الرجل والمرأة، وفق ما يسميه المجلس الملائمة مع المرجعية الكونية وفي إطار حرصه على التنفيذ الكامل دون قيد أو شرط أو تحفظ للتوصيات الأممية.
ولتحقيق كل هذا، تبنت المذكرة مقترحات وتوصيات لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية، ولا تحترم المرجعية الدستورية، ولاتراعي الخطابات والتوجيهات الملكية، ولا تعبأ بالانتظارات الحقيقية والاختيارات والقناعات العامة للمجتمع المغربي ومكانة الأسرة لديه، وهو ما يطرح إشكالا حقيقيا حول مدى تقيد هذه المؤسسة بالضوابط الدستورية والوطنية المحددة لاشتغالها، لاسيما وأن الأمر لا يتعلق بجمعية عادية تتبنى وجهة نظر تستند لمنظومة قيم غربية قائمة على الحرية المطلقة للأفراد، وتؤمن بالتحلل المطلق من المسؤولية وتستهدف منظومة الأسرة، وتعتبر أن الأحكام الشرعية تتعارض مع هذه القيم الغربية، بل إن الأمر يتعلق بمؤسسة دستورية يفترض فيها أن تنضبط لهوية المغاربة وتعكس اختياراتهم، وتلتزم قبل ذلك بثوابتهم وبمرجعيتهم الإسلامية والدستورية والوطنية وبإمارة المؤمنين.
كما تجاهل المجلس كون أن تعديل مدونة الأسرة في إطار المرجعية الإسلامية، ليس اختيارا اجتهاديا، وإنما هو الإطار المرجعي الإلزامي الذي تنطلق منه مدونة الأسرة في حد ذاتها، فمقتضيات المدونة تغطي أحكام الزواج والطلاق والولاية والنفقة والحضانة والإرث والوصية وغيرها كما هي مقررة في الشريعة الإسلامية، ولذلك فلا حاجة للتذكير بأن أي تعديل أو تغيير يتعلق بنصوص المدونة ينبغي أن يتم في إطار المرجعية الإسلامية، ولا يقبل نهائيا من مؤسسة دستورية أن تسمح لنفسها باقتراح بعض الأمور التي لا تراعي الأحكام القطعية للشريعة الإسلامية وتتعامل مع مقتضيات الدستور وفق هواها، ولا تلتزم بالتوجيهات الملكية.
وهو ما يجعلنا وبكل موضوعية، وانطلاقا من المرجعية التي اعتمدتها المذكرة والمقترحات والتوصيات التي قدمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أمام مذكرة خارج الإطار والنص الدستوري، وخارج الثوابت الوطنية الجامعة والراسخة للأمة المغربية، وتعتمد وتنتصر دون قيد أو شرط وبطريقة ميكانيكية للمرجعية والتوصيات الكونية، حتى وإن خالفت أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها، وضدا على مرتكزات الممارسة الاتفاقية للمملكة المغربية في مجال حقوق الإنسان، والتي ترفض وتتحفظ على جميع التوصيات المخالفة للشريعة الإسلامية وللثوابت الجامعة لبلدنا.
باء- حالة سياسية عنوانها التراجع والتردي وفقدان الثقة في العمل السياسي والحكومي وفي الوساطة المؤسساتية
شكلت سنة 2023 محطة نوعية في تأكيد وتقوية مكانة ودور الحزب في موقع المعارضة، وذلك بمقاربة إصلاحية تقدر العناصر الايجابية القائمة كالاستقرار والأمن والاختيارات الاستراتيجية الكبرى للبلاد بقيادة جلالة الملك حفظه الله، وفي نفس الوقت تدافع عن صيانة المكتسبات المحققة لفائدة الشعب المغربي وتتفاعل بإيجابية مع كل ما يخدم مصالحه وحقوقه وتطلعاته في العيش الكريم، وتناهض كل استهداف لهذه المكتسبات أو الحقوق أو التطلعات.
وكما سبق التوقف عند ذلك في مقدمة هذا التقرير السياسي، فنحن إزاء حكومة لا تكاد تنتهي من أزمة إلا وتجد نفسها في أزمة جديدة، بما جعلها في مواجهة مستمرة مع المجتمع وقطاعاته وخاصة من صحة وتعليم ومهن قضائية وعالم الأعمال وغيرها، وهو ما تأكد مع مرور حوالي نصف الولاية الحكومية.
إن الواقع يكشف بجلاء فشلا ذريعا في تدبير مصالح المواطنين وحماية قُفَّتِهِم، وعوض مواجهة الحقيقة، هناك إصرار على الهروب إلى الأمام، في ظل ضُعْفٍ سيَّاسِيٍّ واضح، سقط معه شعار حكومة الكفاءات وتحول إلى حكومة الهواة، وسط العجز عن مواجهة الرأي العام، وعدم التورع عن ترويج الأوهام الزائفة واستعمال شماعة العدالة والتنمية رغم مرور أزيد من سنتين عن الانتخابات، وغرق الأغلبية المصطنعة في دوامة الاحتجاجات المتلاحقة والمعلنة في قطاعات حيوية للخدمة العمومية كالتعليم والصحة والجماعات المحلية…، مما أنتج حالة فقدان الثقة في الحكومة وعدم الرضى عنها بشكل غير مسبوق منذ، ما يفوق 15 سنة، وتغذى معه الاحتقان الاجتماعي ووتيرة الاحتجاجات وتغير طبيعتها وقيادتها.
لقد أصبح المواطنون يقارنون بين اليوم والبارحة، وأضحوا يترحمون على الأمس عندما كانت هناك حكومة تشبه الناس وتتكلم معهم بلغتهم وتحمل همومهم، وتتفاعل مع قضاياهم وتتواصل معهم بصراحة ووضوح وبلسان مبين، وذلك رغم المحاولات العديدة للحكومة وأغلبيتها ورئيسها وأبواقها الإعلامية لاستدعاء العدالة والتنمية في كل مرة للتنفيس عن الفشل والعجز الذريع في مواجهة تدبير الشأن العام وإيجاد الحلول المناسبة.
ونتج عن ذلك حالة من التيه وإنكار الواقع من قبل حكومة تشكلت عبر تحالفات هجينة وغير طبيعية لجماعات مصالح مالية حولت قوانين المالية إلى منصة لخدمة لوبيات المصالح ضدا على المجتمع، مما كسر مسار نمو الاستثمار الوطني وأضعف الطموح الاقتصادي المنتج للمبادرة الحرة والمنافسة الشريفة في صفوف المقاولات الوطنية، ودفع الاتحاد العام لمقاولات المغرب بالرغم من قربه من الحكومة إلى الاحتجاج والتصريح ببطء الحكومة في تنزيل الإصلاحات الداعمة لمجال الأعمال والاستثمار، كل ذلك في ظل وضع اجتماعي واقتصادي الصعب عنوانه غلاء الأسعار وتوسيع دائرة الفقر والهشاشة.
لقد أصبح العنوان الأبرز للحالة السياسية العامة هو التراجع والتردي السياسي والحزبي الذي تشهده البلاد، في ظل حالة من فقدان المصداقية السياسية عند من يَدَّعُونَ أنهم “تصدروا” تدبير الشأن العام، وعدم قدرتهم على مواجهة الانتظارات والاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية للمغاربة، وقصور تفاعلهم مع الغلاء الكبير الذي لم يسجل مثله منذ عقود في أسعار المواد الغذائية ولاسيما تلك التي لا غنى للأسر المغربية عنها، في ظل غياب حكومة مسؤولة وقوية ومبادرة وبشرعية شعبية حقيقية تحس بآلام المواطنين وتنصت لمعاناتهم وانتظاراتهم وتسعى لإيجاد الحلول المناسبة، إلا أن مسار وعمل الحكومة الحالية وأغلبيتها بالبرلمان وبالجماعات الترابية يسير للأسف في الاتجاه المعاكس، الذي يضعف قدرة بلادنا على التصدي الفعال للتحديات الداخلية والخارجية، كما يهدد بفقدان رصيد ما تحقق بفضل الأوراش الإصلاحية والتنموية الكبرى التي شهدتها بلادنا.
⦁ الديموقراطية والوضع الحقوقي: تحديات وتطلعات
وفي هذا الصدد، لابد من الإشادة عاليا بالانتصار الكبير الذي حققه المغرب، يوم 10 يناير 2024 بجنيف، وانتخاب بلدنا لأول مرة وبأغلبية كبيرة لرئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو الانتخاب الذي يدل على المكانة المحترمة التي يتمتع بها المغرب على الصعيد العالمي، ولكونه تحقق بالرغم من المحاولات اليائسة والمتكررة لخصوم وحدتنا الترابية، بالإضافة لكونه نتيجة مختلف الإصلاحات والمجهودات التي يبذلها بلدنا في مجال حماية واحترام حقوق الإنسان، لكنه في الوقت نفسه يجعل مسؤوليتنا أكبر ويدعونا إلى بذل المزيد من الجهد لتكريس الحقوق والحريات الدستورية والحفاظ على المكتسبات الحقوقية وعلى مسار وسمعة ومكانة بلدنا في هذا المجال، وتجنب كل ما من شأنه أن يمس بهذا المسار وهذه السمعة والمكانة.
وهو مناسبة مواتية وفرصة سانحة لبث دينامية ونفس سياسي وحقوقي جديد وإيجاد الصيغة المناسبة واستحضار روح الإنصاف والمصالحة، والمبادرات الملكية التي تُعمل حق العفو الكريم في ملفات المحكومين على خلفية بعض الاحتجاجات الاجتماعية والصحفيين وكتاب الرأي والمدونين، كل ذلك في إطار السيادة الوطنية والمساطر والمؤسسات الدستورية، بما يحصن المكتسبات والتراكمات التي حققتها بلادنا، ويرسخ حرية التعبير والصحافة والإعلام، ومختلف الحقوق والحريات الدستورية، ويعزز صورة بلادنا في المجال الديمقراطي والحقوقي، وفقا للروح التي جسدتها الرسالة الملكية السامية بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
ومن جهة أخرى، وعلى المستويين السياسي والديموقراطي، نسجل أن التدبير الحكومي الراهن كشف عن توجه تراجعي مضاد لنص وروح دستور 2011، حيث تجلى ذلك في:
⦁ تمرير الحكومة بواسطة أغلبيتها البرلمانية العددية لقانون إحداث لجنة مؤقتة لتدبير قطاع الصحافة والنشر، عوضا عن هيئة منتخبة، في خرق سافر لشرطي الديمقراطية والاستقلالية في التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة المنصوص عليه في الفصل 28 من الدستور، وقبله الارتباك الحكومي بخصوص قطاع الصيادلة من خلال اعتمادها لمرسوم بقانون رفضه البرلمان معارضة وأغلبية، وهو ما يكشف عن عودة نزوعات تحكمية وتدخلية تضرب استقلالية الهيئات المهنية.
⦁ والى جانب هذا التراجع البين، سجلنا في الحزب بقلق كبير قرار المحكمة الدستورية رقم 23/207 بخصوص القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، وهذا ما يجعل هذا القانون التنظيمي المهم في مجال الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، يراوح مكانه وهو يستمر في مسلسل التأخير والتأجيل الذي طبعه منذ البداية، وهو ما ينبغي على الحكومة أن تسرع مسطرة إعادة إحالته على البرلمان في أقرب وقت للمصادقة عليه.
⦁ كما عرفت سنة 2023 خطوة تراجعية أخرى تم فيها المس بالاختيار الديمقراطي لبلادنا من قبل الحكومة وذلك في الشق المتعلق باللامركزية والمبادئ الدستورية القائمة على ضمان التدبير الحر للجماعات الترابية، وتأمين مشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم، حيث تمت المصادقة على القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية المتعددة الخدمات، ضدا على مبادئ التدبير الحر والاختصاصات الدستورية الحصرية للجماعات الترابية والقوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، ويشكل تراجعا عن الاختيار الدستوري القائم على اللامركزية وتمكين الجماعات الترابية من القيام بأدوارها الدستورية من خلال تخويلها الاستقلالية الإدارية والمالية وعدد من الاختصاصات الذاتية، واعتبرنا في الحزب أن المخرجات المشوهة لانتخابات الثامن من شتنبر 2021، لا يمكن تصحيحها أو تجاوزها بإضعاف اللامركزية والسحب التدريجي للاختصاصات الذاتية للجماعات الترابية واسترجاعها ضدا على الدستور من طرف الإدارة، بل يبقى السبيل الصحيح هو تكريس وتعميق الاختيار الديمقراطي وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة.
⦁ وبموازة ذلك، كان الحزب صارما إزاء تعامل رئيس الحكومة وحزبه بمنطق حزبي ضيق وباستعلاء واستخفاف وعدم التفاعل المسؤول مع مبادرات المعارضة، وحقها الدستوري في مسائلة ومخاطبة رئيس الحكومة وفقا للتقاليد الديموقراطية، وشن حملات التشهير والتبخيس في مواجهتها والاستقواء بالأغلبية العددية وممارسة أساليب الإقصاء التي تعصف بالمقاربة التشاركية التي طالما ميزت النموذج المغربي وشكلت أحد عناصر قوته واستثنائيته في المنطقة، ونجدد التنبيه اليوم على الخطورة الكبيرة لهذه المقاربة الإقصائية القاصرة اتجاه الأحزاب الوطنية كمؤسسات دستورية للوساطة ولتأطير المواطنين وهو ما يغذي الاحتقان والتوتر في ظل الأزمة الاجتماعية والمعيشية التي تعيشها بلادنا.
⦁ هذا، فضلا عن بعض الانزلاقات التي يعرفها مجال الحقوق والحريات، والتي كان من نماذجها سنة 2023 منع المسيرة الاحتجاجية التي دعت إليها إحدى النقابات بالدر البيضاء؛ ومنع نشاط فكري كان مبرمجا بالمعرض الدولي للكتاب بالرباط؛ وما تم تداوله بخصوص التشدد في التعامل مع بعض السجناء في المؤسسات السجنية. كما عرفت بداية سنة 2024، منع مجموعة من الشخصيات الوطنية والنشطاء الجمعويين من ممارسة حقهم الدستوري في تسليم عريضة إلى رئيس الحكومة وقعها الآلاف من المواطنين والمواطنات للمطالبة بإلغاء “اتفاقيات تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني المحتل”، و”الإغلاق النهائي لمكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط”، وهو ما ينبغي القطع معه نهائيا باعتباره ممارسات مرفوضة دستوريا، فضلا عن كونه يضر بصورة بلادنا وبما حققته في مجال الحقوق والحريات.
⦁ برنامج إعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة من زلزال الحوز: ضرورة التسريع والشفافية، والحاجة إلى مراجعة برنامج الفوارق الاجتماعية والمجالية
إثر زلزال الحوز ليوم 08 شتنبر 2023، وما نتج عنه من فاجعة أليمة أصابت بلدنا، حيث راح ضحيته المئات من الشهداء رحمهم الله وتقبلهم عنده في الصالحين ورزق أهليهم وذويهم الصبر والسلوان، وخلف العديد من الجرحى والمصابين، تميز هذا الحدث المفجع وخفف من وقعه الأليم حجم التعاطف والتعبئة الرسمية والشعبية الاستثنائية والتي تمثلت في:
⦁ الدور القيادي لجلالة الملك حفظه الله وتدخله وتعليماته الفورية لكل الجهات والسلطات المعنية بتسخير كل الإمكانات لإنقاذ ودعم المتضررين وتوفير ما يحتاجونه في تلك اللحظات العصيبة، وترؤس جلالته لجلسات عمل متتالية توجت بتفعيل البرنامج الاستعجالي لإعادة إيواء المتضررين والتكفل بالفئات المتضررة، وإحداث حساب خاص لتلقي المساهمات التضامنية، وبلورة برنامج متكامل لإعادة البناء والتأهيل العام للمناطق المتضررة من الزلزال بغلاف مالي قدره 120 مليار درهم.
⦁ العمل الحثيث والتفاني الكبير والتدخلات المهنية التي ميزت عمل فرق التدخل من مختلف القوات والسلطات العمومية من رجال ونساء القوات اﻟﻣﺳﻠﺣﺔ اﻟﻣﻠﻛﯾﺔ واﻟدرك اﻟﻣﻠﻛﻲ والأﻣن اﻟوطﻧﻲ واﻠوﻗﺎﯾﺔ اﻟﻣدﻧﯾﺔ والقوات المساعدة والسلطات المحلية والمصالح الصحية المدنية والعسكرية وﻣؤﺳﺳﺔ ﻣﺣﻣد اﻟﺧﺎﻣس ﻟﻠﺗﺿﺎﻣن ومنظمات المجتمع المدني.
⦁ بروز أجواء راقية من التعبئة الوطنية والشعبية المنقطعة النظير عبر العديد من المبادرات التضامنية النوعية والجادة، وقوافل المساعدات الإنسانية، التي عبرت بعفوية وتلقائية ومسؤولية عن قيم التعاون والتضامن والتآزر الأصيلة لدى المجتمع المغربي، وهو ما يدعونا إلى إعادة النظر في طريقة التعامل مع مثل هذه المبادرات الشعبية وتحريرها من المراقبة المفرطة وإرادة التحكم والضبط والحذر والريبة غير المبررة، وإلى ضرورة مراجعة وإلغاء الإجراءات المعقدة والطويلة والعقوبات المشددة التي تضمنها القانون الصادر في يناير 2023 بخصوص تنظيم عمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية.
⦁ كما أن هذا الزلزال المؤلم وما أبان عنه من مستوى عال من الصبر والاحتساب والتسليم بقضاء الله وقدره، ومن قيادة حكيمة ومتبصرة لجلالة الملك أمير المؤمنين، وتعبئة شعبية، ينبغي أن نتعظ بما حمله من دلالات ودروس وعبر عميقة تتمثل في الطاقات الكامنة والرصيد الإيماني والقيمي والأخلاقي والوطني المتميز للشعب المغربي المسلم، هذا الرصيد المنبعث أصلا وأساسا من وحدة الشعب المغربي المسلم وتشبته والتزامه بالهوية المغربية التي تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وبالثوابت الوطنية الراسخة الجامعة للأمة المغربية والمتمثلة في الدين الإسلامي والوحدة الوطنية والترابية والملكية الدستورية وإمارة المؤمنين والاختيار الديمقراطي.
⦁ ثم إن هذا الزلزال وآثاره أظهر، على صعيد آخر، العديد من نقاط الهشاشة مما يجعل الحاجة ملحة إلى القيام بمراجعة حقيقية لطريقة ومنهجية بلورة وتنفيذ والمصادقة على مختلف السياسات العمومية والبرامج التنموية، ولاسيما تلك الموجهة إلى المناطق القروية والجبلية والمهمشة والتي عرفت للأسف فشلا بالرغم من المجهودات التي بذلت والبرامج والميزانيات التي رصدت عبر عقود، وإلى الحاجة الماسة والحيوية والمصيرية إلى منتخبين حقيقيين ومؤسسات منتخبة بطريقة ديمقراطية بما يوصل صوت المواطنين ويعبر عن إرادتهم وآلامهم وآمالهم وانتظاراتهم بطريقة مستمرة.
⦁ كما يدعونا إلى ضرورة تقييم برنامج تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية وصندوق التنمية القروية والمناطق الجبلية وإعادة جدولة هذا البرنامج زمنيا ومجاليا بما يأخذ بعين الاعتبار باقي العمالات والأقاليم والمناطق والفئات غير المستهدفة من هذه المشاريع والأوراش، ويضمن تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية والمجالية ويحد من التفاوتات، من خلال استكمال المشاريع التي انطلقت في إطار برنامج تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وكذا إطلاق برامج مندمجة لتأهيل مختلف المدن.
⦁ تفاقم أزمة الوضع الاقتصادي والاجتماعي وعجز الحكومة عن معالجة آثار موجة غلاء الأسعار المستمرة
على خلاف عمليات الدعاية التجميلية حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي، فإن الواقع ونحن على أعتاب نصف الولاية الحكومية، هو ما يجسده تكريس منطق زواج المال بالسلطة وتضارب المصالح واستغلال النفوذ ومواقع المسؤولية الذي ميز هذه الحكومة، مما أدى إلى انحسار الاستثمار الوطني باستثناء الاستثمارات المرتبطة ببعض أعضاء التحالف الحكومي، مع تراجع الاستثمارات الأجنبية وارتفاع عدد مناصب الشغل المفقودة ومعها عدد المقاولات المفلسة.
كما يبقى المؤشر الجلي لهذا الوضع المتردي هو تفاقم موجة الغلاء التي تشمل معظم المواد، والغذائية منها على وجه الخصوص، وفشل الحكومة الذريع في التخفيف عن المواطنين وقصور أدوات التدخل الحكومي في الحد من الارتفاع المهول والمستمر للأسعار، مما جعل الخيار الوحيد أمام المواطنين هو تقليص نفقاتهم والحد من الحاجيات الأساسية، بعد أن تُرِكُوا فريسة للوضعيات الاحتكارية والجشع، وحالة التخبط الحكومي أمام جماعات المصالح وخاصة العاملة في قطاع المحروقات وسلاسل الوساطة والتصدير.
وأمام هذه الوضعية، سارع الحزب في ربيع 2023 إلى دعوة الحكومة إلى صرف دعم مالي للأسر الفقيرة والهشة، دون انتظار السجل الاجتماعي الموحد، بالاعتماد على اللوائح والبوابة الإلكترونية التي اعتمدت سابقا لصرف الدعم في فترة أزمة كوفيد-19، واستعمال الفائض المالي المحقق من المحصول الاستثنائي للضرائب والرسوم المفروضة على المحروقات والأرصدة المتوفرة بالصناديق الخصوصية ذات الصلة بدعم التماسك الاجتماعي، وذلك إلى حين الشروع في صرف الدعم المباشر المخصص في إطار ورش تعميم الحماية الاجتماعية، باعتبار أن موجة غلاء المواد الاستهلاكية والغذائية، تشبه في آثارها إلى حد كبير حالة الحجر الصحي إبان أزمة كوفيد-19.
إلا أنه وعوض التفاعل الإيجابي مع هذه الدعوة عبر تسريع صرف الدعم المباشر للأسر الضعيفة، تم اللجوء المتكرر وبطريقة عشوائية وغير مجدية إلى إقرار بعض الإجراءات الجزئية والمشتتة من مثل الإعلان عن أرقام فلكية إما أنها لا تصرف من مثل 3,3 مليار درهم التي وردت في المرسوم المتخذ في ماي 2023 برسم معالجة آثار التضخم وغلاء الأسعار، أو أرقام أخرى تصرف عبر قنوات لا تصل إلى المواطنين والفلاحين الصغار والتي وبالإضافة إلى كونها تستجيب لضغوط مصالح خاصة محدودة وفئوية، ولا يرى لها أي أثر يذكر في معالجة الأسباب والمنابع الحقيقية للغلاء وارتفاع الأسعار، فإنها تؤدي إلى هدر مؤكد لموارد الميزانية العامة.
⦁ تفاقم أزمة الوضع الاقتصادي والاجتماعي وعجز الحكومة عن تعزيز مسار النمو وخلق فرص الشغل
حددت الحكومة كهدف الرفع من وتيرة النمو الاقتصادي إلى معدل 4% خلال الخمس سنوات المقبلة. ولحد الآن وبعد تحقيق نسبة نمو بلغت 8% سنة 2021، و 1,3% سنة 2022 و 3,4% سنة 2023، تتوقع الحكومة تحقيق نسبة نمو 3,7% سنة 2024، وهو ما يعني أن تحقيق هدف 4 % أصبح بعيد المنال.
كما أن هذا النمو المحقق وبالرغم من محدوديته يتم في مناخ تضخمي بلغ مستويات عالية لم يسجلها المغرب منذ عقود، حيث بلغ المعدل السنوي للتضخم 6.6% سنة 2022 وهو أعلى مستوى منذ سنة 1990، وناهزت نسبة ارتفاع أسعار المواد الغذائية بالخصوص 20 % في نفس السنة.
وهو أيضا نمو غير منتج لفرص الشغل، حيث أن الاقتصاد الوطني فقد بين الفصل الثالث من سنة 2022 ونفس الفصل من سنة 2023، 297.000 منصب شغل، في مقابل وعد الحكومة بإحداث مليون منصب شغل صاف على الأقل خلال الخمس سنوات، وكذا الأرقام المتضاربة والفاقدة للمصداقية التي تصرح بها الحكومة، إذ مرة يدعي وزيرها في الشغل خلق 313.000 منصب شغل، ثم بعد بضع أسابيع يدعي أن الحكومة خلقت 600.000 منصب شغل، ومن جهته أعلن وزير الصناعة أن القطاع الصناعي أنتج 100.000 منصب شغل.
في حين أن الواقع المعيش وما تؤكده أرقام المندوبية السامية للتخطيط، هو ارتفاع حجم البطالة بين الفصل الثالث من سنة 2022 ونفس الفصل من سنة 2023 بـ248.000 شخص، (+181.000 عاطل بالوسط الحضري و+67.000 بالوسط القروي)، ليبلغ عدد العاطلين، على المستوى الوطني، 1.625.000 شخص.
وانتقل معدل البطالة، من 11,4% إلى13,5% على المستوى الوطني، ومن 15% إلى 17% بالوسط الحضري ومن5,2% إلى 7% بالوسط القروي. كما أن معدل البطالة بقي مرتفعا بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 سنة، مسجلا38,2%، 19,8% والحاصلين على شهادة، 19,8% عند النساء.
وتطرح هذه النتائج، من جهة أولى، مجموعة من الأسئلة تتعلق بالتناقض البَيِّنِ بين سياسات الحكومة في المجال الاقتصادي وسياساتها في مجال الشغل، وهدف إحداث مليون منصب شغل صاف خلال الخمس سنوات من جهة أخرى، ومن بينها التزام الحكومة بتشجيع تعويض الوادات بالمنتوجات المحلية بما قيمته 34 مليار درهم من الواردات، مع إمكانية خلق ما يزيد عن 100.000 منصب شغل، وفي الوقت ذاته تخفيضها لرسم الاستيراد على الواردات التي تنافس المنتوجات المحلية.
ومن جهة ثانية، تطرح هذه النتائج المخيبة سؤال الإرباك غير المفهوم من طرف الحكومة لنظام المقاول الذاتي عبر إجراء جبائي في قانون المالية 2023 تراجع عن التحفيزات الضريبية المخولة لهذا النظام منذ 2015، بالرغم من نجاحه الباهر حيث مكن من إحداث أكثر من 406.000 مقاولة ذاتية نشيطة.
ومن جهة ثالثة، تطرح هذه النتائج المخيبة سؤال إرباك ومزاحمة الحكومة لبرنامج “انطلاقة” الذي سبق وأعطى انطلاقته جلالة الملك في 2020 والذي خلق دينامية في صفوف الشباب وحقق نتائج مهمة، حيث منح إلى حدود 30 يونيو 2023 قرابة 53.938 قرضا باعتمادات تجاوزت 9,40 مليار درهم، ونسبة التزام بلغت 7,56 مليار درهم، مما مكن 32,639 مقاولة مستفيدة من خلق أكثر من 118,694 منصب شغل.
حيث بادرت الحكومة لتطلق في 12 أبريل 2022 برنامجا جديدا شبيها ببرنامج “انطلاقة” سمته “فرصة” وخصصت له ميزانية بمبلغ 1.25 مليار درهم، وأسندت الإشراف عليه لوزيرة السياحة ومهمة تدبيره للشركة المغربية للاستثمار السياحي وهما وزارة ومؤسسة لا اختصاص لهما ولا علاقة لها بمثل هذه البرامج، حيث ومنذ انطلاقه، تم اختيار 12.500 مستفيد وإلى حدود الآن مازال هناك تأخر في صرف الدعم والتمويل بالرغم من أن المستفيدين أجبروا على الإدلاء بعقود الكراء وإحداث المقاول الذاتي.
كما أطلقت الحكومة في 20 يونيو 2023 برنامج “أنا مقاول” من طرف وزير التشغيل بهدف مواكبة 100.000 رائد أعمال وحامل مشروع ومقاول ذاتي ووحدات اقتصادية غير مهيكلة ومقاولات صغرى، في أفق 2026.
وقبله أطلقت الحكومة برنامج أوراش على سنتين وخصصت له ميزانية قدرها 2.25 مليار درهم، لفائدة 104.000 مستفيدا سنة 2022.
وكل هذه البرامج وبالإضافة إلى كونها لا تأخذ بعين الاعتبار البرامج الناجحة القائمة وتدعمها بل تربكها وتزاحمها، فإنها تطرح أيضا سؤال الهشاشة والاستمرارية وشبهات الزبونية التي تخيم على تنزيل هذه البرامج عبر جمعيات معينة أو على مستوى الجماعات الترابية.
ومن جهة رابعة، تطرح هذه النتائج المخيبة السؤال حول مدى قدرة الحكومة وتقدمها في تنزيل التوجيهات الملكية بخصوص تعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات الموجهة لإحداث 500.000 منصب شغل في الفترة 2022-2026.
⦁ ورش تعميم الحماية الاجتماعية وإصلاح المنظومة الصحية والدعم الاجتماعي المباشر: شروط تعجيزية للاستفادة وتحديات ضمان استدامة التمويل
وبخصوص الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية وبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر للفئات الهشة، لابد من تسجيل الاعتزاز الكبير بالعناية والتوجيهات الملكية السامية الداعية إلى تسريع الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية والشروع قبل نهاية هذه السنة في صرف الدعم الاجتماعي المباشر، وتوسيع الاستفادة منه إلى فئات اجتماعية أخرى هشة ومستحقة للدعم.
وهنا لا بد أن نذكر أيضا بالأهمية القصوى التي يوليها حزب العدالة والتنمية للدعم المباشر وللعناية بالفئات الاجتماعية الفقيرة والهشة المستحقة، وبالإصلاحات الهيكلية التي قام بها الحزب، والتي عالجت اختلالات المالية العمومية، ومن ضمنها إصلاح نظام المقاصة، وهو ما مكن من استرجاع عافية المالية العامة وتوفير هوامش مالية كبيرة، سمحت بمواصلة تمويل مختلف السياسات والبرامج والمشاريع والأوراش الاجتماعية، ومن ضمنها ورش تعميم الحماية الاجتماعية وبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر، والذي ما كان له أن يرى النور لولا توفيق الله عز وجل، ثم تبني جلالة الملك حفظه الله ودعمه له، ثم هذه الإصلاحات الهيكلية التي وفرت له الإمكانيات المالية.
وهنا لا بد من التذكير أيضا بما سبق وطالب به الحزب بضرورة معالجة مجموعة من الاختلالات، التي ظهرت جلية بعد تقديم رئيس الحكومة في جلسة مشتركة أمام مجلسي البرلمان بتاريخ 24 أكتوبر 2023 برنامج الدعم الاجتماعي المباشر، حيث لم يقدم أية معلومات عن الإطار القانوني والمؤسساتي له، واعتماد الحكومة لعتبة استفادة مرتفعة تحرم فئات واسعة من الاستفادة من مختلف برامج تعميم الحماية الاجتماعية، وهو ما دفع الحكومة في الأخير إلى استدراك الوضع والمسارعة إلى إخراج القانون المتعلق بنظام الدعم الاجتماعي المباشر؛ والقانون المتعلق بإحداث الوكالة الوطنية للدعم الاجتماعي المباشر؛ والمراسيم ذات الصلة ومراجعة عتبة الاستفادة، ومعالجة بعض الإشكاليات التي برزت بخصوص نظام التأمين الإجباري الأساسي “تضامن”، والتي أدت إلى حرمان العديد ممن كانوا في السابق يستفيدون من نظام المساعدة الطبية “راميد”.
كما وجب التذكير بالمقاربة الحكومية المتسرعة والتي أدت إلى حرمان فئات واسعة من المواطنين والمواطنات من الاستفادة المجانية من الخدمات الصحية عند التحويل الانتقائي للمستفيدين من نظام المساعدة الطبية “راميد” إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في إطار التأمين الإجباري عن المرض “تضامن”، حيث وجد -وما زال- أزيد من 7 ملايين مواطن نفسهم بدون تغطية صحية وتركوا لمصيرهم، وكذا حرمان عدد من الفئات الهشة والفقيرة من برنامجي دعم الأرامل وتيسير طيلة أشهر بسبب ربط الحكومة الاستفادة من هذه البرامج بشكل مُتَعسف بالتوفر على بطاقة “راميد”، في الوقت الذي لم تعد هذه الوثيقة موجودة أصلا، قبل أن تتم مراجعة الأمر وإعادة صرف الدعم المكتسب لمستحقيه من النساء الأرامل في وضعية هشة؛ وللأسر التي لها أطفال في سن التمدرس.
وقد تعدى هذا الارتباك ليشمل منظومة المنح الجامعية على إثر اعتماد الحكومة لمرسوم جديد يغير شروط وكيفية صرف المنح الدراسية للطلبة، وذلك بغرض تغيير الشروط الاجتماعية المعتمدة اليوم للاستفادة من المنح التعليمية وتعويضها بشروط جديدة سيتم استخراجها من قاعدة بيانات السجل الاجتماعي الموحد؛ وكذا حذف اللجان الإقليمية المعمول بها حاليا وتعويضها بلجنة وطنية تترأسها السلطة الحكومية المكلفة بالتعليم العالي، وهو ما سيؤدي إلى تعقيد الشروط ومركزة وبُعد القرار عن الفئات المعنية وبالتالي حرمان العديد من الطلبة من الاستفادة من المنحة الجامعية.
لذا، وأمام تحديات المرحلة التأسيسية والانتقالية لورش تعميم الحماية الاجتماعية، وجب التنبيه إلى خطورة المقاربة المحاسباتية والتقنية والميكانيكية الصِّرفة التي تؤدي إلى إقصاء وحرمان مجموعة من الفئات الهشة من الاستفادة من دعم وبرامج كانت تستفيد منها في السابق، وذلك تحت عنوان خادع يدَّعي “تجويد آليات استهداف الفئات المستفيدة من البرامج الاجتماعية عبر استثمار الإمكانيات التي يتيحها السجل الاجتماعي الموحد والوكالة الوطنية للسجلات”.
وفي نفس السياق، وجب التنبيه إلى أن المقاربة الخاطئة التي اعتمدتها الحكومة لتحويل المستفيدين من نظام المساعدة الطبية “راميد” إلى نظام التأمين الإجباري عن المرض “تضامن” والذي ترتب عنه تحمل الدولة لمبلغ سنوي قدره 9,5 مليار درهم يتم تحويله للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقابل التكفل ب11 مليون مستفيد ومستفيدة فقط، في مقابل المبلغ السنوي الذي كانت تتحمله الدولة في السابق برسم نظام المساعدة الطبية “راميد” والذي ورغم بلوغه أوجه في 2022، لم يتعد 2 مليار درهم لفائدة 18,44 مليون مستفيد ومستفيدة، وهو ما يطرح سؤالا كبيرا عن مدى حرص الحكومة على ترشيد النفقات في الوقت الذي تطرح فيه بقوة إشكالية تمويل هذا البرنامج، وكذا عن الجهة التي ستستفيد من هذا الفارق الكبير الذي بلغ فارق 7,5 مليار درهم برسم تحملات الدولة بين الأمس واليوم، ومقابل استفادة عدد أقل بكثير من الذي كان يستفيد في السابق.
حيث كان من الممكن -ومازال مطلوبا مراجعة هذا القرار- مضاعفة المبلغ المدفوع للمستشفيات العمومية، وهو ما كان من جهة سيؤدي إلى تأهيل القطاع العام الصحي وتحفيز أطره وتأهيل الخدمات المقدمة للمستفيدين من تضامن، وفي نفس الوقت سيوفر على الدولة مبلغ يصل إلى 5 مليار درهم سنويا هي في حاجة ماسة إليها للمساهمة في تمويل باقي برامج تعميم الحماية الاجمتماعية.
ولهذا، وجب الحرص في هذه المرحلة التأسيسية والانتقالية على الحفاظ على الحقوق المكتسبة للمستفيدين الحاليين من مختلف البرامج القائمة أو السابقة (راميد؛ الأرامل؛ تيسير، مليون محفظة، المنح الجامعية…) من خلال تسجيل المستفيدين تلقائيا في السجل الاجتماعي الموحد من جهة، وكذا الحرص على تصحيح هذا المسار الخاطئ في تدبير نظام “تضامن” والذي أدى إلى تحويل المستفيدين من “راميد” إلى هذا النظام بفاتورة تفوق أربع مرات فاتورة استشفاء 60% فقط من المستفيدين سابقا، من جهة أخرى.
ومن جهة أخرى، وجب التذكير والتنبيه إلى أن أحد التزامات الحكومة ما يزال مُعَلَّقًا إلى أجل غير مسمى، وإن حاولت التغطية عليه بالحديث عن استفادة الأسر التي تأوي مسنين من الدعم الاجتماعي المباشر، وهو أمر مختلف تماما لا من حيث شروط الاستفادة ولا من حيث المبلغ المخصص له، عن التزامها الواضح والصريح في البرنامج الحكومي بإحداث “مدخول كرامة” لفائدة المسنين ممن تبلغ أعمارهم 65 سنة فما فوق ويعيشون في ظروف هشاشة وتحويل نقدي لهم حده الأدنى 1000 درهم بحلول سنة 2026، والشروع اعتبارا من الفصل الرابع لسنة 2022 بتحويل مبلغ شهري يبلغ 400 درهم.
كما وجب التنبيه في هذا الصدد أيضا، إلى خطورة المقاربة التجزيئية وغير الواضحة في تعاطي الحكومة مع استكمال ورش إصلاح صندوق المقاصة ارتباطا بورش تعميم الحماية الاجتماعية، وهو ما يدعو إلى تبني مقاربة شمولية وواضحة تراعي مختلف فئات المجتمع وفي مقدمتها الطبقات الفقيرة والهشة والمتوسطة، وتمكن من سد الباب نهائيا في وجه الريع الذي تستفيد منه شركات الغاز والسكر من صندوق المقاصة، مع اعتماد آلية تسقيف أسعار المواد المتبقي تحريرها والإبقاء عليها ضمن قائمة الخدمات والأسعار الخاضعة للتقنين، وإن كان أي إصلاح عادل وشامل لصندوق المقاصة يستوجب أولا توفير مناخ الثقة في القائمين عليه، وأن حالة تضارب المصالح في قطاع المحروقات تطرح الكثير من المخاوف بشأن أي إصلاح مرتقب.
وفي المحصلة، يبقى إرساء مشروع تعميم الحماية الاجتماعية والدعم الاجتماعي المباشر مشروعا ملكيا ووطنيا كبيرا ممتدا في الزمن، وقد سبق أن شكل أحد عناصر البرنامج العام للحزب ودافع عنه باستماتة وشرع في تنزيله من موقعه في الحكومة عبر دعم الأرامل والمطلقات والزيادة المهمة في عدد المستفيدين وفي الميزانية المخصصة للمنح الجامعية، وتوسيعها لتشمل طلبة التكوين المهني، والزيادة في عدد المستفيدين وفي الميزانية المخصصة لبرنامج تيسير لدعم التمدرس…، ولا يمكن إلا تقدير هذا التوجه، والانخراط في توفير شروط نجاحه، خاصة في ظل التحديات المرتبطة بمعايير الاستفادة، والعتبة المعتمدة، وتعبئة الموارد اللازمة للتمويل وضمان استدامتها، والعلاقة مع البرامج الأخرى، وحكامة هذا النظام، والشفافية والإنصاف المطلوبين، وهو ما يدعو إلى تعبئة وطنية شاملة لإنجاحه وضمان استدامته.
⦁ الصحة والتعليم ومباراة المحاماة: عنوان التخبط الحكومي وهدر الزمن التربوي وفقدان الثقة
لقد شكلت سنة 2023 سنة انكشاف التخبط الحكومي في ملفات حيوية واستراتيجية من مثل الصحة والتعليم، حيث تم الوقوف كما تمت الإشارة سابقا على خطورة الإشكالات الكبيرة التي تصاحب تنزيل الحكومة لورش تعميم التغطية الاجتماعية ولاسيما في شقه المتعلق بتدبير التحول من نظام المساعدة الطبية “راميد” إلى نظام التأمين الإجباري عن المرض “تضامن”.
وبخصوص قطاع التعليم بمختلف أسلاكه، فإن الواقع دال على أزمة حادة أدخلت الحكومة إليها المدرسة العمومية ومعها الجامعة، بعد فرض خطة جديدة في قطاع التربية الوطنية تحت مسمى “خارطة الطريق 2022 – 2026″، ومسمى “المخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار – 2030″، في تجاهل تام للقانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وتهميش للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وكان من أولى نتائج خارطة الطريق هذه اعتماد نظام أساسي لموظفي التربية الوطنية لا يتضمن تنفيذ الوعود الانتخابية والتزامات البرنامج الحكومي ونتج عنه توقف الدراسة لشهور، وعوض سحبه لجأت الحكومة إلى المماطلة دون اعتبار لمستقبل 7 ملايين من الأطفال في المدرسة العمومية، وهو ما سيخلف آثارا وتداعيات تتجاوز ما يظهر من نتائج بيداغوجية وتربوية آنية.
وفي نفس الوقت ينبغي التوقف عند التخبط الكبير الذي يطبع تنزيل الحكومة للهندسة اللغوية بالمنظومة التعليمية، والسعي لفرض هندسة لغوية خارج الإطار الدستوري والقانوني، عبر سياسة الأمر الواقع الذي يكرس هيمنة اللغة الفرنسية كلغة للتدريس، واعتماد مذكرة لتعميم تدريس اللغة الإنجليزية في السلك الإعدادي في خطوة محدودة ودون المطلوب لا من حيث الموارد البشرية المؤهلة ولا من حيث حجم الزمن المخصص، وهو ما يتطلب معالجة الأمر من خلال تبني هندسة لغوية منسجمة مع أحكام الدستور باعتماد اللغة العربية كلغة للتدريس، بما يعالج الاختلالات والصعوبات الكبيرة التي يعاني منها المتعلمون والتي برزت بشكل واضح في الترتيب المتدني لمنظومتنا التعليمية، مع الانفتاح على مختلف اللغات الأجنبية وبالأساس اللغة الإنجليزية.
وإلى جانب ذلك، واصلت الحكومة اعتبار 30 سنة كسن أقصى للولوج إلى الوظيفة التربوية بحجج غير معقولة ودون أي سند يذكر من الناحية الدستورية والقانونية والمهنية، وهو شرط وبقدر ما يخلق حالة من اليأس لدى الشباب بحرمانهم من حقهم في المشاركة في المباريات العمومية، يحرم المنظومة التربوية من مجموعة من الطاقات الشابة والمتمرسة، وبهذا الخصوص لم تتجاوب الحكومة لحد الآن مع مقترح قانون قدمته المجموعة النيابية للحزب لتجاوز الوضعية غير العادلة وغير المبررة التي فرضتها الحكومة على عموم الشباب قصد ولوج الوظيفة العمومية في قطاع التربية الوطنية بتحديدها للسن الأقصى في 30 سنة.
وعلى مستوى قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، تسجل حالة من العبث والاستهتار بعد اعتماد ما سمي “مخطط جديد لتسريع تحول منظومة التعليم العالي – 2030” بشكل انفرادي ومنفصل عن واقع الجامعة، وإلغاء العديد من المؤسسات الجامعية، وإلغاء نظام الباشلور، واعتماد إصلاح بيداغوجي يفتقد الشرعية القانونية ولا يعتمد على أي تقييم موضوعي، وبدون إشراك الأساتذة وهياكل المؤسسات الجامعية، وفرض تكوينات ضدا على استقلالية الجامعة ووفق ضوابط بيداغوجية لا تزال في طور المناقشة، وخارج إطار الإصلاح شمولي للتعليم العالي بجميع مكوناته، كما تنص على ذلك بالخصوص المادة 12 من القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.
أضف إلى ذلك كله سيادة الزبونية والحزبية في التعيينات؛ والترخيص للجامعات الخاصة المبنية على المحسوبية والولاءات الحزبية؛ وتفشي ممارسات غريبة تسيء إلى هيبة الجامعة وحرمتها؛ وتضارب المصالح وصراعات الاستئثار بالمسؤوليات والولوج للوظائف، والإقصاء الممنهج لبعض مكونات الجامعة المغربية وخاصة في التعيينات، كل هذا يشكل إرباكا وتهديدا حقيقيا لاستقرار وإصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي.
وعلى مستوى تدبيرها لمباراة المحاماة، والتي شكلت هي الأخرى نموذجا للأزمات المتلاحقة، حيث وبعد اعتماد الحكومة لأسلوب غير شفاف وتشوبه خروقات في الامتحان الخاص بمنح شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، وعوض ترتيب الآثار السياسية الناجمة عن الفشل في هذا الملف واتخاذ قرار سياسي مسؤول يرد الاعتبار والثقة في المؤسسات، من خلال إعمال المبدأ الدستوري القائم على ربط المسؤولية بالمحاسبة وما يترتب عليه من استقالة الوزير أو طلب إعفائه، وصولا إلى إلغاء نتائج هذه المباراة وإعادة تنظيمها، ولاسيما على إثر خلاصات وتوصيات مؤسسة الوسيط، التي تشكل إدانة صريحة ومباشرة لوزير العدل وللحكومة، وتمثل اعترافا رسميا من مؤسسة دستورية بما شاب هذه المباراة من خروقات، بادرت الحكومة إلى تنظيم مباراة جديدة، وهو ما يضرب في الصميم المبادئ والأسس التي يقوم عليها تدبير الشأن العام ويزرع الشك في مصداقية المؤسسات، وهو ما أدى في النهاية إلى فقدان الثقة في الحكومة وتنامي الاحتجاجات على إثر أي قرار حكومي يهم فئة من الفئات باعتبار أن الحكومة أظهرت عدم جديتها في احترام مبادئ الحكامة الجيدة وضعفها في مواجهة الملفات التي تواجهها بعدما ترسخ لدى الرأي العام عدم مصداقيتها وزرعت الشك في نزاهة قراراتها.
وهو ما نبه الحزب إليه في حينه وحذر من آثاره على مصداقية المؤسسات والعمل السياسي والحكومي، باعتبار مضي الحكومة في ضرب المبادئ الكبرى والمكتسبات الأساسية للدولة في تكريس وضع الحكومة المنتخبة المسؤولة والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، واحترام القانون، والشفافية، والمنافسة الشريفة، والمساواة بين المواطنين، وعودة الزبونية وتضارب المصالح والجشع والسعي المجنون نحو الإثراء غير المشروع.
⦁ الحوار الاجتماعي: وعود رنانة ومنهجية معطوبة تأجج الاحتجاجات وتهدد استمرارية المرافق العمومية وإمكانيات الدولة
على خلاف الشعارات الحكومية بإطلاق مقاربة جديدة للحوار الاجتماعي وجعله خيارا استراتيجيا، فإن الواقع كشف عن عقدة مزمنة عند الحكومة، حيث تعمد وما تزال الى المقارنة الخاطئة وغير اللائقة وغير المسؤولة مع الحكومات السابقة، بلغت أوجها بالقول في مجلس المستشارين بكون الحوار الاجتماعي في متم سنة 2024 سيكلف 14 مليار درهم، “وأنه يفوق المبلغ الذي خصص لثلاثة حوارات اجتماعية على الأقل في ثلاث ولايات حكومية سابقة”، وهو أمر وفضلا عن كونه ينم عن ضعف وغياب حس المسؤولية، فإنه لا طائل منه أصلا ولا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لما ينبغي أن تقوم به الحكومة للوفاء بالتزاماتها الكبيرة ووعودها الرنانة، فضلا عن كونه يفتقد للدقة والموضوعية والصدقية في الأرقام والأحكام.
وهنا ينبغي التنبيه إلى أن المنهجية الحكومية في الحوار الاجتماعي منهجية معطوبة وخاطئة تأجج الاحتجاجات وتؤدي إلى تعطيل المرافق العمومية، وذلك باعتبارها من جهة تعتمد مقاربة قطاعية ضيقة ومجزءة وغير مندمجة وغير مرتبة بشكل دقيق على المستوى الزمني والقطاعي والتواصلي، وبمنطق ومنهجية لا تستحضر في نفس الوقت إمكانيات الدولة ولا تراعي الإنصاف والعدالة المطلوبين بين مختلف موظفي الدولة، وهو ما أدى في النهاية إلى فقدان الثقة في الحكومة وإفقاد الثقة أيضا في النقابات، وهو ما أدى وسيؤدي إلى تزايد الاحتجاجات الفئوية وإلى بروز ظواهر يصعب معها إدارة الحوار الاجتماعي والقطاعي بشكل هادئ ومسؤول يراعي المصلحة العامة وإمكانيات الدولة ومصلحة عموم المواطنين والمواطنات وحقوق وواجبات هذه الفئات ويحفظ استمرارية المرافق والخدمات العمومية.
⦁ الجفاف الحاد وتدبير أزمة الماء بالتهرب من المسؤولية ومحدودية برنامج دعم الفلاحين والعالم القروي
شهدت سنة 2023 موجة جفاف حاد للسنة الثانية على التوالي بما لها من آثار سلبية كبيرة على مخزون الماء وحقينة السدود وعلى توفر الماء الشروب وعلى الفلاحة والعالم القروي وتبعا لذلك على الأمن المائي والغذائي لبلادنا.
ولمواجهة هذه الوضعية الصعبة، وبالرغم من تصريحاتها بأن تدبير إشكالية نقص الموارد المائية يحظى بأهمية بالغة لديها وأنها سارعت منذ تنصيبها إلى التعامل بكل ما ينبغي من الحزم والمسؤولية لتسريع إنجاز مختلف المشاريع المهيكلة المتضمنة في البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020-2027، وتحميلها المسؤولية في كل مرة وكعادتها للحكومات السابقة إلا أن قوانين المالية المتتالية تكذب اهتمام الحكومة المبكر والملموس بهذا البرنامج الأولوي.
إذ أن الحكومة اضطرت إلى تدراك تأخرها بإجراءات استعجالية لتوفير التمويلات اللازمة وتسريع المشاريع الجارية، بعد التوجيهات الملكية بهذا الخصوص في خطاب جلالة الملك في 14 أكتوبر 2022 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة؛ ثم في 09 ماي 2023 خلال ترأس جلالته جلسة عمل لمتابعة البرنامج الوطني لإمداد مياه الشرب والري.
وللتخفيف من وطأة الضغط وغياب الاستباقية رافقت الحكومة وأغلبيتها هذه الاجراءات التي اعتمدتها بناء على التوجيهات الملكية، وكعادتها بخطاب غير مسؤول يعلق تأخرها وعدم اتخاذها لما ينبغي منذ بداية ولايتها، سواء في أول قانون مالية لها برسم سنة 2022 أو في قانون المالية الثاني لها في برسم سنة 2023 لمواصلة وتسريع البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020-2027، بادرت إلى تبرير هذا التأخر وتعليق المسؤولية على الحكومة السابقة.
والحقيقة هي أن هذه الحكومة وبالرغم من كونها أكدت في البرنامج الحكومي في المحور
“1-3 الفلاحة والصيد البحري والصناعة الغذائية” على أن البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020-2027، كما أراده جلالة الملك يقدم جوابا ملموسا للتحديات؛ وأنه “وبغاية تعزيز العرض من مياه السقي، سيتم العمل على تشييد 20 سدا كبيرا جديدا، وإنشاء 3 محطات لتحلية مياه البحر وإتمام 5 محطات أخرى، وإحداث 150 سدا صغيرا ومابين 20 و 30 سدا تليا سنويا، وذلك بغلاف مالي إجمالي قدره 61 مليار درهم…” فإنه يسجل عليها ما يلي:
⦁ ارتباكها وعدم تقديرها لمسؤوليتها كاملة في هذا الموضوع بشكل مبكر ومباشرة بعد تنصيبها، لا سيما وأنها تتوفر على برنامج كامل وشامل تم توقيع الاتفاقية الإطار الخاصة به منذ 13 يناير 2020، وأن وزير الفلاحة آنذاك ورئيس الحكومة الآن كان من بين الموقعين على هذه الاتفاقية الإطار؛
⦁ تأخر رئيس الحكومة في عقد اجتماع لجنة قيادة البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، حيث لم يعقد أول اجتماع لها في عهده إلا في 30 نونبر 2022، أي بعد أزيد من سنة من ترؤسه للحكومة؛
⦁ لم تُضَمِّنْ الحكومة ضمن التوجهات العامة لمشروع المالية برسم سنة 2022 ولا خطاب وزيرة الاقتصاد والمالية لتقديم هذا المشروع إشارة لأولوية تدبير الماء وللمشاريع المتأخرة التي ستعمل الحكومة على تسريعها، وبقيت الميزانية المخصصة لهذا القطاع في حدودها العادية؛
⦁ بخصوص مشروع تحويل المياه، لم يتضمن برنامج عمل وزراة التجهيز والماء برسم قانون المالية 2022 سوى مواصلة الدراسات المفصلة لمشروع تحويل المياه من حوض سبو إلى حوض أم الربيع ومن الأحواض الشمالية الغربية (حوض لاو وحوض القنار وحوض بوحيا) نحو الأحواض الشمالية الشرقية وملوية السفلى؛
⦁ اضطرت الحكومة إلى استدراك الأمر في قانون المالية لسنة 2023 ببرمجة 10.6 مليار درهم لتدبير إشكالية ندرة المياه بزيادة حوالي 5 مليار درهم مقارنة بسنة 2022 (4 ملايير درهم في مواصلة إنجاز السدود الكبرى والمتوسطة، و1.5 مليار درهم برسم مساهمة الدولة في تمويل مشاريع التحلية، و1.4 مليار درهم برسم مشاريع التزويد المراكز القرويه والدواوير بالماء الصالح للشرب)، وذلك بعد التوجيهات الملكية الواردة في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية في 14 أكتوبر 2022؛
⦁ وبالرغم مما سبق، اضطرت الحكومة أيضا إلى اللجوء خلال سنة 2023، في 18 ماي 2023، إلى اعتماد مرسوم بفتح اعتمادات إضافية بمبلغ 1.5 مليار درهم لتغطية النفقات الإضافية التي يتطلبها تنزيل البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020-2027، وإلى تسريع مجموعة من المشاريع الجارية، وذلك بعد التوجيهات الملكية خلال جلسة العمل التي ترأسها جلالة الملك يوم 09 ماي 2023 لمتابعة البرنامج الوطني لإمداد مياه الشرب والري.
⦁ وتثبت قوانين المالية لسنة 2022 و2023 والمرسوم المتخذ في ماي 2023 بفتح اعتمادات إضافية بما لا يدع مجالا للشك التأخر الحكومي وضعف التوقع والبرمجة المالية لبرنامج استعجالي معروف ويا ما ادعت وأكثر من مرة الحكومة أنه يشكل أولوية قصوى لها وصرحت بأنها وقفت بخصوصها على تأخر الحكومات السابقة، وأنها قامت بما يلزم لتسريع هذه المشاريع ولتدارك هذا التأخر، وهو ما يكذبه عدم برمجتها للاعتمادات المالية لهذه المشاريع بشكل كاف منذ بداية ولايتها، واضطرارها لتدارك الوضع في كل مرة تنفيذا للتوجيهات الملكية.
وبخصوص آثار الجفاف على القطاع الفلاحي، اعتمدت الحكومة البرنامج الاستعجالي لدعم الفلاحين، تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية، بغلاف مالي يقدر ب 10 ملايير درهم لدعم الأعلاف المخصصة للمواشي والدواجن؛ ودعم المواد الأولية الفلاحية، وتخصيص اعتمادات مالية لاستيراد القمح اللين.
إلا أن التحدي الذي بقي مطروحا هو مدى قدرة الحكومة على أن يصل الدعم لمستحقيه، في ظل تواتر المعطيات عن انحرافه عن أهدافه ومراميه الاجتماعية، وهو ما أكد عليه الحزب على إثر توقيع الحكومة مع الهيئات الفلاحية والفيدراليات البينمهنية يوم 13 يونيو 2023 على الاتفاقية الإطار المتعقلة ببرنامج الحد من تأثير نقص التساقطات المطرية بمبلغ 10 مليارات درهم، دعا لإعطاء الاولوية لدعم الفلاحين الصغار والمتوسطين منهم.
حيث تبين أن الحكومة اعتمدت نفس المنهجية التي اعتمدتها في الاتفاقيات التي سبق التوقيع عليه بين الحكومة ونفس المهنيين بتاريخ 04 ماي 2023 بالملتقى الدولي للفلاحة ضمن 19 عقد لتنمية سلاسل الإنتاج النباتية والحيوانية بميزانية تبلغ 110 مليار درهم، من ضمنها 42 مليار درهم كمساهمة من الدولة، حيث تم تركيز الدعم على الهيئات والفيدراليات الكبيرة والمنظمة والتي ينتظم ضمنها بالأساس كبار الاستغلاليات والفلاحين والفلاحة التصديرية، وأهملت الفلاحين الصغار والمتوسطين.
وظهر فيما بعد أن ادعاء الحكومة بأن هذا البرنامج الجديد يهدف إلى خفض كلفة إنتاج الخضر الأساسية ادعاء يكذبه الواقع المستمر والمطبوع بالغلاء، باعتبار أن الحكومة اعتمدت في 2022 ما أسمته آنذاك “البرنامج الاستثنائي للتخفيف من آثار نقص التساقطات المطرية”، وبنفس المبلغ، أي 10 مليار درهم، وهو ما لم يكن له أثر يذكر على توفير المواد الفلاحية والغذائية بالثمن المعقول، بل سجل المغرب وما يزال أعلى مستويات التضخم وغلاء أسعار المواد الفلاحية والغذائية بشكل لم يسجل من قبل.
كل هذا يدل على أن هذه المجهودات العمومية والمالية الكبيرة والتي تتوالى وتتشابه من سنة لأخرى دون أن تحقق الغرض منها في دعم الفلاحين المتضررين والتخفيف على المواطنين سببه المنهجية التي تعتمدها الحكومة بالتركيز على طرق صرف تستفيد منها فئات بعينها ولا تبلغ الفعالية والنتائج المطلوبة ولا الاستفادة المرجوة، حيث أن اقتصار الحكومة على هذه الهيئات التي تبقى تمثيليتها محدودة وينتظم ضمنها كبار الاستغلاليات والفلاحين والفلاحة التصديرية، يؤدي إلى إغفال فئة كبيرة ومهمة ومحتاجة من ساكنة العالم القروي من الفلاحين الصغار والمتوسطين، وهي الفئة التي تعاني أكثر من غيرها من الجفاف وتتطلب أكثر من غيرها الاهتمام والدعم.
كما شهدت هذه السنة شبهة أخرى للحكومة في تدبير ملف المواشي، فبعد وقف استيفاء رسوم استيراد الأبقار وأضاحي العيد، و”الإعفاء” دون سند قانوني، من الضريبة على القيمة المضافة عند الاستيراد، وصرف دعم مالي لمستوردي الأغنام، عوض صرف هذا الدعم للكسابة ومربي المواشي لتشجيع القطيع الوطني، لم يكن لكل هذه الإجراءات وإلى الآن أي أثر يذكر على أثمنة اللحوم وعلى توفير الماشية آنذاك بأثمنة معقولة في العيد، ثم من جهة أخرى فضلت الحكومة دعم وتسهيل الاستيراد عوض المنتوج الوطني، بما يهدد بفقدان المغرب للإنتاج الوطني من الأبقار والأغنام وتعويضه بالاستيراد الميسر بالإعفاءات بما فيها غير القانونية وبالدعم المالي، وهو نفس الطريق الخطير الذي أدى للأسف إلى تراجع الإنتاج الوطني من الحبوب والاعتماد على الخارج وتهديد أمننا الغذائي.
وفي المحصلة، إن هذه المقاربة القائمة على توجيه الدعم لبعض الفئات المحظوظة من المستوردين، وإغفال الفلاحين الصغار والمتوسطين والمستهلكين، مع غياب آليات فعالة لضمان استفادة الفئات المستحقة من الإنفاق العمومي الموجه للاستيراد، هي وبالإضافة لكونها تبدد المال العام دون نتيجة، فإنها تساهم في تركيز جديد للثروة لدى فئة نافذة مرتبطة بزواج المال بالسلطة تستغل كل الوضعيات من أجل مراكمة الثروات على حساب عموم المواطنين والمواطنات وتهدد الفلاحة الوطنية والقطيع الوطني من الأبقار والأغنام.
⦁ قانون مالية 2024 وتكريس الانحراف الحكومي وزواج المال بالنفوذ السياسي
إن فلسفة ومنطق الحكومة وأغلبيتها في التعامل مع قوانين المالية، ما يزال قائما على منطق التمكين لفئات وجهات ومصالح بعينها على حساب الفئات المتوسطة والهشة وعلى حساب المالية العمومية، وهو ما تجلى في الإجراءات الضريبية الجمركية لقانون المالية لسنة 2024 وهي استمرار لنفس منطق قانون مالية 2023، والذي كرس الخطر الذي لطالما نبه له الحزب والمرتبط بزواج المال بالسلطة، وهو ما تجلى من خلال:
⦁ تراجع الحكومة عن الإجراءات الجمركية الاستراتيجية والنوعية المتخذة سابقا لحماية الاقتصاد الوطني وتشجيع الإنتاج المحلي ودعم مشاريع تعويض الواردات بالمنتوج الوطني، ومن ضمنها تخفيض رسم الاستيراد من 40% إلى 30 % على المنتوجات التي أخضعت لرسم الاستيراد بهذه النسبة بمقتضى قانون المالية المعدل لسنة 2020، بدعوى أن رفع هذه النسبة كان مرتبطا بسياق جائحة كوررونا، والهدف في الحقيقة هو خدمة مصالح ضيقة ضدا على المصلحة الاقتصادية الوطنية ومناصب الشغل التي توفرها الصناعة والشركات الوطنية، وذلك في تحلل سافر من التزامات البرنامج الحكومي بتشجيع وسم “صنع في المغرب”، وعزمها على تقليص الاعتماد على الاستيراد، وتتبع الحكومة سياسة طموحة تستعيض عن الوادات بالمنتوجات المحلية، وتروم إنتاجا محليا لما قيمته 34 مليار درهم من الواردات، مع إمكانية خلق ما يزيد عن 100.000 منصب شغل”.
⦁ تسجيل عدم وفاء الحكومة ببعض التزاماتها الأساسية في الحوار الاجتماعي والقطاعي وتعاملها الانتقائي والفئوي وغير المتوازن مع مختلف الالتزامات والقطاعات هو ما أدى إلى خلق جو من التوتر داخل بعض القطاعات، وأساسا الارتباك الكبير الذي يعرفه قطاع التربية الوطنية منذ بداية الموسم الدراسي الحالي مع توالي واستمرار الإضرابات.
⦁ قبول الحكومة على مستوى مجلس المستشارين لتعديلات عديدة تهم مواد باسمها وبعينها دون سابق دراسة تقييم أثر، وقبولها لتعديلات سبق أن رفضتها بدفوعات قوية ومفصلة بمجلس النواب، ومنها سبع تعديلات تقدمت بها المجموعة النيابية للعدالة والتنمية.
⦁ تراجع الحكومة على رفع الرسم الداخلي على الاستهلاك المطبق على الخمور وقبولها لتعديل بهذا الخصوص بمجلس المستشارين، والتعليل الغريب الذي اعتمدته الحكومة وأغلبيتها لهذا التراجع حيث اعتبرت أن “هذا الرسم عرف زيادات متتالية خلال السنوات العشر الأخيرة، مما انعكس سلبا على مالية الشركات العاملة في هذا القطاع”، وهو ما يعني تراجع الحكومة كعادتها عن السياسة المتبعة منذ سنوات، والتي كان الحزب يتبعها سابقا في الحكومة بالزيادة في هذا الرسم في قوانين المالية للحد من الاستهلاك، وهو ما آتى أكله بدليل اعتراف الحكومة، حيث أن استهلاك هذه المشروبات المحرمة وذات الآثار الاجتماعية والصحية الخطيرة والمدمرة قد تراجع، وللأسف تسعى الحكومة بتراجعها هذا إلى تشجيع الاستهلاك كما ورد في التعليل الفضيحة عند قبولها لهذا التعديل.
⦁ المالية العمومية: مخاطر وتحديات في غياب الإصلاحات الضرورية وهدر لسنوات من العمل المضني لاستعادة التوازنات والتحكم في مسار المديونية
بعد سنوات من المجهودات المضنية والمكلفة لاستعادة التوازنات المالية وضبط عجز الميزانية ومسار المديونية ببلادنا، ها هي المالية العمومية تتعرض لضغوطات كبيرة وغير مسبوقة تُنْذِرُ بتعميق عجز الميزانية والمديونية، بسبب هذه الحكومة ومنهجيتها المتساهلة وغير المقروءة والتي توحي وضدا على قواعد المالية العمومية بأن الموارد المتوفرة لها غير محدودة.
وتتجلى منهجية الحكومة في تدبير المالية العمومية من جهة أولى في عدم جُرأتها وتخلفها عن إنجاز الإصلاحات الحقيقية فيما يتعلق بالموارد بهدف تنميتها، بل بالعكس فإن الحكومة وفي مختلف إجراءاتها الجمركية وفي تنزيلها للقانون الإطار للإصلاح الجبائي تتقدم وفق سرعتين مختلفتين تختلف بين الإجراءات ذات الأثر على عموم المواطنين والشركات الصغرى والمتوسطة من جهة، والأثر لفائدة الشركات الكبرى من جهة أخرى، وتنزل إصلاحا شاملا وغير متدرج للضريبة على القيمة المضافة وفي سياق غير مناسب، ما قبل تنزيل محتشم وجزئي بخصوص ترشيد التحفيزات الضريبية.
ومن جهة أخرى وعلى مستوى تدبير النفقات، نجد الحكومة لا تبذل أي مجهود جدي لترشيد النفقات وخلق مساحات مالية جديدة تمكن من ضمان استدامة العديد من النفقات التي تبدو غير ممولة بطريقة مستدامة لحد الآن سواء ما تعلق منها بورش تعميم الحماية الاجتماعية أو بنفقات الحوار الاجتماعي أو العديد من المشاريع الاستثمارية المتعلقة بالماء والطاقات المتجددة.
ومن جهة ثالثة، لجأت الحكومة إلى تعميق المديونية إما بطريقة مباشرة حيث بلغت نسبة المديونية 71,6% من الناتج الداخلي الخام بعد أن تم التحكم في نسبة المديونية في الأسبق في حدود تناهز 60% من الناتج الداخلي الخام، باستثناء سنتي 2020 و2021 ارتباطا بجائحة كوفيد، حيث تفاقم حجم المديونية بزيادة 125 مليار درهم في سنة 2022 ونصف سنة 2023، وهي زيادة كبيرة وغير مسبوقة.
كما لجأت الحكومة بشكل كبير وغير مسبوق إلى الاستدانة المقنعة عبر تحويرها لمفهوم التمويلات المبتكرة وتحويلها إلى عملية تفويت ملكية بعض الأصول العقارية – الدولة في حاجة إليها – إلى مستثمرين مؤسساتيين عمومييين (صندوق الإيداع والتدبير والصندوق المغربي للتقاعد) مع الحفاظ على استعمالها من طرف الدولة عبر إبرام عقود كراء طويلة الأمد، عوض تمويلها لاستثمارات جديدة كما كان القصد والحال في بداية هذه التمويلات، وأصبحت الحكومة تلجأ إليها بطريقة سهلة وكبيرة حيث أنه تمت تعبئة مبلغ أزيد من 55 مليار درهم بين 2019 و 2023 وتتوقع الحكومة تعبئة مبلغ 30 مليار درهم في سنة 2024 لوحدها.
لذا، فقد أصبح التأطير القانوني لهذه التمويلات ملحا لإخضاعها لمساطر شفافة ومضبوطة وللترخيص والمراقبة البرلمانية على غرار التمويلات الأخرى، وضمان توجيه عائداتها حصريا لتمويل الاستثمارات العمومية وليس لتغطية نفقات التسيير، والتأكد من عدم إثقال هذه التمويلات لحسابات المستثمرين المؤسساتيين بأصول عقارية ليست من اختصاصهم فضلا عن أنها تمتص سيولة هم بحاجة إليها.
وهو ما يطرح السؤال عن النسب الحقيقية لعجز الميزانية والتي بلغت حسب الحكومة 4,5% من الناتج الداخلي الخام سنة 2023 مقابل 5,2% من الناتج الداخلي الخام سنة 2022 وتتوقع الحكومة أن تبلغ هذه النسبة 4% من الناتج الداخلي الخام سنة 2024.
وأمام حجم الأرقام الفلكية التي تعلن عنها الحكومة بسهولة كبيرة في كل مرة وغياب أي مجهود لتطوير الموارد وترشيد النفقات واللجوء إلى الاستدانة المقنعة تحت مسمى “التمويلات المبتكرة” أصبح الرأي العام يتسائل عن منبع ومصدر هذه التمويلات وأصبح المتخصصون يطرحون أسئلة مقلقة حول مآل المالية العمومية وعجز الميزانية والمديونية، باعتبار أن وضعية المالية العمومية هي مؤشر دال وأساس من أسس الاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي، وأساس لحفظ النظام العام المالي والاقتصادي.
⦁ تضارب المصالح وغياب المنافسة النزيهة والتواطؤ في تحديد أسعار المحروقات
لعل السمة الأساسية الأخرى للتدبير الحكومي الحالي هو ترك المواطنين فريسة للوبيات المصالح والمضاربة والجشع والإثراء غير المشروع، والتطبيع مع تضارب المصالح والريع، وعمق ذلك:
⦁ عدم انخراط الغلبية الحكومية في تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول شبهات استيراد وتصدير النفط الروسي، بعد تهرب الحكومة من المسؤولية وعدم تفاعلها بالتوضيح اللازم والمسؤول بالمعطيات والوثائق حول ما تداولته منصات مالية دولية مختصة ومنابر إعلامية ذات مصداقية عن وجود تلاعبات في وثائق استيراد شركات مغربية للنفط الروسي والأثمان المصرح بها، وعدم تأثير ذلك على ثمن البيع للعموم في السوق الوطنية، وتسجيل حالة تصدير هذا النفط.
⦁ عدم تطبيق الحكومة للتوصيات الأولى لمجلس المنافسة الصادرة في رأي المجلس في 21 غشت 2022 حول الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات، قبل صدور قراره الأخير الصادر في 23 نونبر 2023 والذي أكد الممارسات المنافية للمنافسة لشركات المحروقات بالمغرب.
⦁ تجاهل ما أثير حول تنازع المصالح والمخالفات القانونية بخصوص الاستفادة من التوفر المسبق على المعلومة المتعلقة بتوقيف الرسوم الجمركية على استيراد العجول، ورفض القيام بتحقيق وترتيب المسؤوليات على ضوء نتائجه.
⦁ انتشار فضائح الفساد المالي والتدبيري في العديد من الجماعات الترابية وتوالي المحاكمات بها، في ظل استمرار نهج جديد على مستوى الجماعات الترابية، قائم على تضارب المصالح واستغلال النفوذ والرغبة في مراكمة الثروات على حساب مصالح المجتمع والمواطنين والمواطنات، وهو ما أفرز حالات التصدع والتفتت في مختلف الأغلبيات المسيرة للجماعات الترابية، وأسهم في تعطيل وتوقيف العديد المجالس الجماعية والمصالح الحيوية للمواطنين والمواطنات.
وعلى صعيد ثان، أكد صدور قرار مجلس المنافسة ليوم 23 نونبر 2023 الممارسات المنافية للمنافسة بالسوق الوطنية للمحروقات، التي سبق وأن نبه إليها الحزب عدة مرات ودعت المجلس إلى القيام بأدواره الدستورية لمحاربتها، غير ان هذا القرار جاء مخيبا للآمال باعتبار أنه طبق الحد الأدنى للغرامة (1,84 مليار درهم بالنسبة لجميع الشركات ومنظمتها المهنية)، وهو مبلغ لا علاقة له بحجم الأرباح التي راكمتها هذه الشركات انطلاقا من الاختلالات والاتفاقات والتحالفات المحظورة قانونا، وذلك بالرغم من أن هذه الشركات ومنظمتها المهنية اعترفت بالمنسوب إليها، ولم تعارض صحة المؤاخذات المبلغة إليها وسلكت مسطرة التسوية التصالحية.
كما وجب التأكيد أن سلوك مجلس المنافسة للمسطرة التصالحية وتطبيقه لاحتساب المبلغ الأساسي للعقوبة المالية على هذه الشركات لنسبة تناهز 03% فقط، عوض النسبة الأقصى 10%، من رقم المعاملات ذو الصلة بالمخالفة خلال السنة المالية المختتمة؛ لم يأخذ بعين الاعتبار باقي العناصر التي حددتها المادة 39 من القانون رقم 40.21 بتغيير وتتميم القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، ولاسيما ما يتعلق منها بمدة ارتكاب المخالفة محسوبة بعدد السنوات؛ والإثراء والمبالغ المحصل عليها دون وجه حق من خلال المخالفة؛ ودرجة تورط هذه الشركات ومنظمتها المهنية في تنظيم ارتكاب المخالفة؛ ومراعاة تناسب مبلغ العقوبة المالية كذلك مع خطورة الأفعال المؤاخذ عليها، وأهمية الضرر الذي ألحقته بالاقتصاد الوطني، ومع وضعية هذه الشركات ومنظمتها المهنية.
حيث إن نسبة ومبلغ هذه الغرامة من شأنها أن يشجع هذه الشركات على مواصلة هذه الممارسات المنافية لقواعد المنافسة على حساب المستهلك، ما دامت تجني من هذه الوضعية أرباحا طائلة تمثل أضعاف أضعاف هذه الغرامة، وهو ما يتطلب من مجلس المنافسة إبقاء هذه الشركات ومنظمتها المهنية تحت المراقبة التلقائية والحثيثة واللصيقة لإلزامها باحترام تعهداتها بتحسين السير التنافسي لسوق المحروقات والوقاية من مخاطر المساس بقواعد المنافسة، ويجبرها على تطبيق السعر العادل والاكتفاء بالربح المعقول، من خلال ضمان العلاقة المطلوبة بين أسعار بيع الغازوال والبنزين للعموم وأسعار هذه المواد في السوق الدولية، وتجنب مراكمة الأرباح الفاحشة على حساب المستهلكين والاقتصاد الوطني، لاسيما بعد اعترافها بالتواطؤ وبعدم احترامها لقواعد المنافسة.
وفي سجل آخر ومثال صارخ لتضارب المصالح، شكل فوز فروع شركات تابعة للمجموعة الاقتصادية التي يملكها رئيس الحكومة بصفقة مشروع تحلية ماء البحر في الدار البيضاء؛ وخطورة تنازع المصالح والجمع بين المال والنفوذ السياسي، وبغض النظر عن مدى احترام المساطر والشروط التنافسية والقانونية والإدارية في تخويل هذه الصفقة، إلا أن هذا الفوز، يطرح شبهات كبيرة وإشكالا جوهريا سياسيا وأخلاقيا باعتبار أن الحكومة تعمل، تحت سلطة رئيسها، وأن الإدارة موضوعة تحت تصرفها، وأنها تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية، وعليه كان الأجدر والأليق برئيس الحكومة أن لا تشارك شركاته في هذه الصفقة أصلا، وأن يكتفي بالقطاعات الاقتصادية الكبيرة التي يسيطر عليها، وذلك بالنظر لوضعه القانوني والاعتباري، وللمقتضيات الدستورية المرتبطة بالحكامة الجيدة وبالمخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، وبالقانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، وللشروط المتعلقة بحالة الاستبعاد المرتبطة بتنازع المصالح المنصوص عليها في دفتر تحملات هذه الصفقة.
كما أن الدفع في تخويل هذه الصفقة لهذه المجموعة بحجة دعم وتشجيع الشركات الوطنية والرأسمال الوطني، وهو التوجه الوطني الذي يدعمه الحزب ويشجعه لكن على أساس احترام قواعد المنافسة الشريفة وعدم تركيز الاستفادة من الصفقات العمومية والدعم العمومي على مقاولات بعينها، إلا أنه للأسف يبقى غير مقبول وغير وجيه في هذه الحالة بالذات، وذلك باعتبار أن المغرب يتوفر على نخبة معتبرة من الشركات والمقاولات الوطنية المؤهلة والقادرة على خوض غمار مثل هذه الصفقات وتنفيذها كما يجب، وكان الأولى أن تتاح لها الفرصة عوض التضييق عليها ومزاحمتها من طرف شركات مملوكة لرئيس الحكومة، وهو ما كان وبالإضافة إلى توسيع الاستفادة والتمكين للشركات والرأسمال الوطنيين، كان سيجنب بلدنا في نفس الوقت هذه الورطة السياسية والأخلاقية التي تكرس للأسف ما سبق ونبه إليه وحذر منه الحزب من خطورة تنازع المصالح والجمع بين المال والنفوذ السياسي.
⦁ تنامي مظاهر الفساد والزبونية في التعيينات
لقد أدى ما سبق الى تراجع دال وخطير لبلادنا في مؤشر إدراك الفساد، بالإضافة إلى ازدياد حجم التسيب والزبونية في عملية التعيين في المناصب العليا على مستوى المجلس الحكومي وحملة التعيينات المتتالية التي تتم كل أسبوع وبالجملة وضدا على مبادئ المشروعية والشفافية والكفاءة والجدارة، في ظل سكوت الصحافة والإعلام على هذه التعيينات في الوقت الذي كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها بدون وجه حق حول التعيينات في الولايتين الحكوميتين السابقتين، بالرغم من كونها كانت تتم وفق معايير الشفافية والكفاءة والاستحقاق.
وإذ نذكر مجددا بمركزية ملف محاربة الفساد وبضرورة إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وبالأدوار الهامة التي ينبغي أن يضطلع بها المجلس الأعلى للحسابات للمساهمة في تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية، إلا أن الغريب هو كون المجلس أصبح يركز ويهتم فقط ويختزل هذا الملف الحيوي في علاقته بالأحزاب السياسية وبالمنتخبين، دون غيرهم من المسؤولين المعينين على مستوى السلطات المركزية والترابية ومختلف الإدارات والمؤسسات والأجهزة العمومية.
وننبه إلى كون هذه المنهجية الانتقائية، وبالإضافة لكونها تغفل مخاطر كبيرة في مجال التدبير العمومي والأموال العمومية لكون الميزانيات والاختصاصات المخولة للأحزاب السياسية والمنتخبين الترابيين تبقى ضعيفة جدا بالنظر للميزانيات الضخمة والاختصاصات الكبيرة المخصصة للمسؤولين المعينين مركزيا وترابيا، فإنها تعطي الانطباع بأن الفساد مرتبط فقط بالأحزاب السياسية وبالمنتخبين، وأن باقي المسؤولين يتمتعون بحصانة، وهي منهجية وبقدر ما تغفل مخاطر كبيرة في الفساد وهدر الأموال العمومية، فإنها تساهم في تبخيس العمل السياسي والحزبي وصرف المواطنين عن الانخراط في تدبير الشأن العام.
⦁ تكريس الهيمنة والاحتكار في الإعلام السمعي البصري وفقدان التعددية وإقصاء وتغييب منهجي للحزب
وعلى خلاف المقاربة التشاركية التي تم إرساؤها في العقدين السابقين، انتكس الأداء الحكومي في الشأن الإعلامي، فمن جهة أقدمت الوزارة الوصية على إقصاء فاعل أساسي تمثل في الفيدرالية المغربية لناشري الصحف واستبعادها من التشاور الفعلي حول قضايا قطاع الصحافة والنشر، وذلك في مختلف استحقاقاته المتعلقة بالتنظيم الذاتي لقطاع الصحافة، والدعم العمومي الموجه لهذا القطاع، وتدبير الأوضاع الاجتماعية للصحافيين.
ومن جهة أخرى، تكرس نهج الإقصاء مع النقابة الوطنية للصحافة التي عبرت عن نقدها لإقصائها من التشاور حول المرسوم المتعلق بتحديد شروط وكيفيات الاستفادة من الدعم العمومي لقطاعات الصحافة والنشر والطباعة والتوزيع وذلك بداية دجنبر 2023.
وهو إقصاء يعكس إرادة في النكوص عن قواعد الشفافية والحياد والحكامة الجيدة في تدبير هذا الدعم العمومي، والذي تم التوقف عن نشر معطياته منذ سنوات، وذلك رغم المطالبة الملحة والمقتضيات القانونية المؤطرة، مما يفتح المجال للتدخل في الحقل الإعلامي وضرب استقلاليته.
في نفس السياق، ينبغي التوقف عند حالة التردي الإعلامي ونكوص المشهد السمعي البصري العمومي عن تجسيد دوره في خدمة التعددية السياسية والحزبية، وتراجع البرامج الحوارية وإقصاء الفاعلين السياسيين والحزبيين من الخدمات السمعية والبصرية العمومية والخاصة، وصيانة حق المواطن في الخبر وفي الرأي الآخر، وتراجع دورها في دعم الإنتاج الوطني وإشعاع الثقافة المغربية، والتمكين لرموز المس بالقيم المغربية ومرجعيتها، بما يجعلنا إزاء مشهد إعلامي يشتغل في تعارض مع الثوابت الدستورية والوطنية.
حيث أن قنوات القطب العمومي أصبحت غائبة عن القضايا الأساسية والراهنة التي تشغل بال المواطنين والمواطنات، وتمعن في المقابل في تبديد الأموال العمومية في إنتاج وبث برامج ومواد مطبوعة بالتفاهة والسطحية بدل تنظيم برامج حوارية وفتح نقاشات عمومية حول القضايا التي تشغل الرأي العام وإنتاج مواد تربوية وتثقيفية وتوعوية تنفع البلاد والعباد.
وهو انتكاس تكرس أكثر في السياسة العمومية المؤطرة للسينما والمهرجانات ويضع الحقل الثقافي في حالة اصطدام مع قيمنا وهويتنا.
ومن جهتها، أثبتت تقارير الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري المتعلقة ببيان مداخلات الشخصيات العمومية في النشرات والمجلات الإخبارية في خدمات الاتصال السمعي البصري، خلال الفصلين الثالث والرابع لسنة 2022 الصادرين في غشت 2023، عطبا كبيرا وانتهاكا جسيما لأحكام الدستور والقوانين الجاري بها العمل فيما يتعلق بضمان الإنصاف والتعددية وفق قواعد التمثيلية والتوازن وعدم الاحتكار لخدمة عمومية التي هي أساسا حق للمواطن يوجب على المتعهدين احترامه والالتزام به تحت طائلة العقوبات القانونية.
كما كشف كلا التقريرين في خلاصاتهما عن أن ولوج حزب العدالة والتنمية إلى المجلات الإخبارية للخدمات التلفزية كان في حدود 0,32 % أي أقل بعشر مرات عن تمثيليته النيابية، كما أن تقرير الفصل الرابع من سنة 2022 لم يتطرق كلية إلى نسبة ولوج الحزب إلى الخدمات التلفزية رغم تطرقه لنسب باقي الأحزاب بما فيها أحزاب تقل تمثيليتها عن تمثيليته، وهو ما يوضح بشكل جلي تغييبا وإقصاء منهجيا للحزب وحيفا كبيرا يتعرض له الحزب في ممارسة حقه الدستوري في الولوج للبرامج الإخبارية والنقاشات، على مستوى الخدمات العمومية والخاصة، وعلى مستوى مختلف القنوات التلفزية والخدمات الإذاعية.
ثالثا- الوضع التنظيمي والسياسي الحزبي: حيوية تصاعدية في أفق عقد المؤتمر الوطني العادي التاسع للحزب
جعل عطاء الحزب ونضاله في سنة 2023 محطة لتحول تصاعدي ونشاط تنظيمي ونضالي مقدر في مسار الحزب، وَوَضَعَ الحزب في موقع متقدم في النقاش السياسي الوطني، مع استحضار التحديات القائمة أمام الحزب.
لقد وجد الحزب نفسه في مواجهة سياسة واضحة لتحجيم الحزب وإقصائه وتهميشه وعزله مع الإصرار على استحضاره فقط -وفي كل مرة- من أجل تحميله سلبيات وعجز الأغلبية الحكومية الوطنية والترابية الناجمة عن انتخابات 08 شتنبر 2021، وهو ما تمكن الحزب من إفشاله وتجاوزه بشكل كبير، باعتباره حزبا وطنيا مسؤولا ومناضلا بغض النظر عن حجم تمثيليته ومواقعه.
وإذ نستحضر حالة التراجع العام في الديمقراطية التمثيلية المبنية على الأحزاب في العالم لفائدة هيمنة وتحكم لوبيات المصالح والمال والنفوذ والريع والفساد، فإن ذلك لم يكن سوى مرحلة تنهض بعدها المجتمعات لرفض التلاعب بها وتضليلها، لأن الحرية ورفض التحكم قاعدة من قواعد الاجتماع البشري، ولا يمكن تعويضها بأي حال، وهي رؤية حكمت توجه الحزب وقيادته في تجديد العهد والعزيمة، للانطلاق من جديد كتيار سياسي وطني إصلاحي مبدئي، وإرساء خط قوي للمعارضة المسؤولة والبناءة، ومضاعفة مجهود اليقظة والتعبئة في التفاعل مع القضايا المستجدة في المجتمع والدولة والأمة.
وهو ما برزت إرهاصاته في عدد من المحطات والمواقف التي عبرت عنها أمانته العامة وتم بسطها في هذا التقرير، وشكلت محاور اشتغال الحزب وقدمت في ندوات وطنية، كندوة مشروع قانون المالية، وندوة مدونة الأسرة، والمهرجان الجماهيري حول قضية فلسطين، وذلك في ظل دينامية تصاعدية التي يعرفها الحزب، بعد سنتين وأشهر من المؤتمر الوطني الاستثنائي.
وعلى المستوى التنظيمي، تم عقد المؤتمر الوطني لجمعية منتخبي العدالة والتنمية يوم 26 فبراير2023، الذي تكلل بانتخاب الأخ محمد العربي بلقايد رئيسا للجمعية، وتم تنزيل البرنامج الوطني للتكوين الموجه لعموم أعضاء الحزب كما هو مقرر في أول أحد من كل شهر، من خلال برمجة مجموعة من المواضيع تهم مدونة الأسرة ورهانات الإصلاح، وتطور المنظومة التعليمية، وورش تعميم التغطية الاجتماعية، وورش إصلاح المنظومة الصحية، فضلا عن تنظيم لقاء دراسي بخصوص وتقييم المخطط الأخضر بتنسيق مع المجموعة النيابية للعدالة والتنمية ومنتدى الأطر والخبراء بالحزب، وقيام لجنة الشؤون السياسية والسياسات العمومية بالمجلس الوطني بتنظيم لقاء دراسي حول الأسباب والتداعيات والحلول المقترحة لإشكالية التضخم وارتفاع الأسعار ببلادنا.
وبالنظر للتحديات التي يعرفها مجال التربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي، وعلى مستوى تنزيل ورش تعميم الحماية الاجتماعية وإصلاح المنظومة الصحية، قررت الأمانة العامة للحزب تكليف منتدى الأطر والخبراء بالحزب بمتابعة هذين الملفين لاتخاذ المواقف المناسبة بشأنها والتصدي للتراجعات والاختلالات والضغط على الحكومة للالتزام بالنصوص القانونية المرجعية للإصلاح، والحفاظ على المكتسبات المحققة على مستوى مجموعة من البرامج الاجتماعية لفائدة المواطنين والمواطنات والفئات الهشة والمحتاجة منهم بالخصوص.
وعلى مستوى تدبير مالية الحزب، تم بتاريخ 30 مارس 2023 إرجاع الشطر الثاني من فائض الدعم الناجم عن النتائج المعلنة برسم انتخابات 8 شتنبر والبالغ 2.893.780,75 درهم إلى خزينة الدولة، على أن يتم إرجاع الشطر الثالث والأخير بنفس المبلغ هذه السنة، وذلك وفق الاتفاق الذي تم بين الحزب ووزارة الداخلية، والمتضمن في رسالتها الجوابية بتاريخ 29 أبريل 2022، وهي نفس الصيغة التي يتم العمل بها في هذه الحالة مع باقي الأحزاب. وقد تم إخبار المجلس الأعلى للحسابات رسميا بذلك بمناسبة إيداع الحزب لحسابه السنوي برسم سنة 2022 مشهودا بصحته من طرف خبير محاسب وذلك يوم 31 مارس 2023 داخل الأجل القانوني.
وستستمر هذه الدينامية بحول الله في المرحلة المقبلة من خلال ورش الإعداد للمؤتمر الوطني العادي التاسع للحزب، بما يجعل منه تتويجا لمسار النهوض الحزبي ونقطة انطلاق لاستعادة المبادرة في الحقل السياسي، وهي مسؤولية جماعية لا يمكن تصور النجاح فيها بدون انخراط كامل وشامل لعموم أعضاء الحزب، ليكون بعون الله وحسن توفيقه، محطة حزبية وسياسية متميزة لتقويم أداء الحزب واستنهاض الهمم والتعبئة النضالية والديمقراطية، ليواصل الحزب بحول الله بنفس جديد ويعزز إشعاعه ويرسخ مكانته في المشهد السياسي والحزبي الوطني، كحزب وطني مستقل في قراره؛ وَفِيٍ للثوابت الوطنية الجامعة للأمة المغربية؛ ومدافع بقناعة راسخة وقوة وإخلاص عن قضايا الأمة والوطن والمواطنين، بما يضمن مواصلة خط النضال من أجل تكريس الاختيار الديمقراطي وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.
ومع هذه الدينامية التنظيمية، فالحزب مدعو أيضا ليواصل بكل عزم و حماس، خلال سنة 2024، ومن خلال كل مؤسساته ومجموعته النيابية وهيئاته الموازية ومناضليه ومناضلاته، القيام بأدواره الدستورية وتقوية حضوره ورفع وتيرة أداءه النضالي من موقع المعارضة وتعزيز مواقفه في مواجهة الحكومة وسياساتها الفاشلة، لا سيما ونحن نعيش وضعا يتسم بضعف الحكومة وأخطائها المتكررة وارتباكها وتفاقم الوضع الاجتماعي وتزايد الاحتجاجات، وهو ما يجعل مسؤوليتنا أكبر في مواصلة الدفاع على المصالح والمطالب المشروعة للمواطنين، بما يدعم الاستقرار ويحقق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
} وَقُلِ اِ۪عْمَلُواْ فَسَيَرَي اَ۬للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَالْمُومِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَيٰ عَٰلِمِ اِ۬لْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ {
التوبة – الآية 106
عن موقع: فاس نيوز