ـ دور الشعر :
أمة بلا لغة شاعرية هي أمة بلا هوية، فالشعر هو أعظم وسيلة لاستنهاض العزائم، وبث روح العزة والكرامة، ولو نظرنا إلى الماضي التليد كيف حافظت الأمة على هويتها، وكيف حفظ التاريخ أعمال عنترة، والخنساء، وامرؤ القيس، والنابغة الذبياني… كيف يكون الشعر وسيلة من وسائل حياتنا الروحية، وفي مواجهة حالة الافتراس الحضاري… نحن في مفترق طرق.. نكون أو لا نكون.
فالشِّعر، بما له من ألفة في وجدان العربيّ، قادر على أن يُسهم، كما سبق القول، في تأصيل الهويّة العربيّة. والمتأمِّل في النّهضة العربية أواخر القرن التّاسع عشـر، يلاحظ أنّ أوّل الفنون التي استعملها النّهضويّون العرب هو الشِّعر؛ لأنه قادر على أن يربط الإنسان العربيّ بقضايا أمّته، والمواطن العربي بدأ يتصف كليا وجزئيا بالصفات الآتية :
1- الإحساس بعدم المسؤوليّة عمّا يجري في المجتمع.
2- الانغماس في متع العصر الاستهلاكيّة في المأكل، والملبس، والسّلوك، أو التّطرُّف، والابتعاد عن العصر بإيجابيّاته وسلبيّاته.
3- التَّرجُّح بين قيم العروبة الرّوحيّة، والماديّة النابعة من العقيدة والثقافة، والقيم المادية النابعة من العولمة الاقتصاديّة.
4- الاعتقاد أن المجتمع المثالي هو المجتمع الغربيّ بعاداته وتقاليده وديمقراطيّته، وأن المجتمع العربيّ متخلِّف لا يمكن إصلاحه ولا حفزه إلى اللَّحاق بالغرب المتقدِّم.
5- الإيمان بأن اللّغة الانجليزيّة هي لغة التقنية الحديثة، وأن العربية صعبة لا علاقة لها بهذه التقنية، ولا صلة تربطها بالحداثة، ولا أمل لها باللّحاق بركب صانعي الحضارة العالميّة الجديدة.
ــ مكانة الشعر :
كان الشعر ولا يزال ديوان العرب، وكثير من الأدباء في عالمنا العربي ينحتون الصخر لكي تصل إبداعاتهم إلى محبي الشعر.. ويتميز الشعر العربي عبر عصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالموسيقى من خلال الإيقاع الشعري، وبتكونه من مجموعة أبيات، كل بيت منها يتألف من مقطعين يدعى أولهما الصدر، وثانيهما العَجُز، وهذا النوع من البناء عُرف بالشعر العمودي.
كان الشعر العمودي هو الأساس المعتمد للتفريق بين الشعر والنثر، بحيث يخضع في كتابته لقواعد الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذه القواعد تدعى علم العروض.
ويعرف علم العروض بأنه علم بمعرفة أوزان الشعر العربي، أو هو علم أوزان الشعر الموافق أشعار العرب. مما حدا بالبعض في ما بعد لنظم العلوم المختلفة المستجدة في قوالب عمود الشعر، كألفية بن مالك وغيرها، وذلك استغلالا لما تألفه الأذن العربية من الإيقاع المنتظم، ممّا يجعل تلك المنظومات أسهل للحفظ والاسترجاع من الذاكرة، ولكنها بذلك، ولذلك بالتحديد، خرجت من دائرة الشعر إلى دائرة النظم، أي أنها افتقدت الفاعلية الجمالية التي تميز الشعر عبر أدواته المختلفة، التي لم يكن عمود الشعر إلا مظهراً من مظاهر الشكل الفني غير جوهرية، وبهذا فقدت روح الشعر، مع أن المعلقات قصائد عمودية نظمت بأوزان الشعر العربي دون أن تفقد روح الشعر وجمالياته الإبداعية بأبعاده الفنية والفلسفية والتي تعد أشهر ما كتبه العرب في الشعر، وقد قيل إنها سميت معلقات لأنها كانت تعلق في أطراف الكعبة لشهرتها وكتبت بماء الذهب، وقيل أيضا إنها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان. والصعوبات الجمة لتحوصل الشعر العربي في المكانة الضيقة وغياب النقد الجاد البعيد عن الأمزجة والأهواء الشخصية، بالإضافة إلى غياب الكوادر المتخصصة في النقد، أضف إلى ذلك أن الشعر الذي يوجد على الساحة لا يناسب الكثير من الأمزجة الحديثة التي انحدرت فيه الأذواق إلى الهاوية بحجة مواكبة المدنية.
ــ الشعر والإعلام الترفيهي :
الإعلام الترفيهي هو الذي أفرز ثقافات وضيعة وثقافة التدني… كلمات ليس لها معنى؛ (بَحِبَّك يا حمار)، هل تعلم أنها عنوان أغنية، هل وجدت انحطاطا أكثر من هذا..
ــ المبدع والإعلام :
الإعلام له دور بارز في تقريب المبدع إلى جمهوره، ولكن قد يكون الإعلام سلبيا حين يسلط الضوء على شاعر أو أديب ويترك الباقين، فمثلا أحد الشعراء العظام عندنا في صعيد مصر اسمه أمل دنقل، هذا الشاعر لم ينل حظه من الشهرة رغم قامته السامقة في عالم الشعر ومات فقيرا، والكثير من الأدباء لا يعرفه لأنه لم يعرف من أين تؤكل الكتف، والإعلام لم يعطه حقه لأسباب كثيرة.
ــ جسر العبور إلى وجدان الإنسان :
الفن والأدب فعلا هما جسرا العبور إلى وجدان الإنسان، وعلى الخصوص الشعر، لأنه من أقصر الطرق لمخاطبة مشاعر الإنسان، أحلى الصور الأدبيَّة هي تلك التي تكون فيها الرُّؤى والمشاعر تتدفق، رابطة ما بين صعوبة الحاضر (لتوحي بالصدق)، وإمكان المستقبل (لتوحي بالأمل)، تتخلَّل تضاريس البيئة الواقعيَّة متعالية على تحدياتها؛ لترسم لوحة أحلام وآمال تمسُّ شغافَ القلب والوجدان، هنا يمهد الأدب المبدع لإحداث التغيير الإيجابي في الفكر قبل حدوثه على أرض الواقع، هنا يرتفع منسوب التحفُّز والطموح ليدفع باتجاه الحياة بكل عنفوانها. إلى نوع من الفن الراقي لمخاطبة العقل قبل مخاطبة الجسد
ــ الشعر ونزعة الاستعلاء :
الشعر العربي قد واجه مفهوما جديدا من حيث الإزاحة الثقافية لطغيان نزعة الاستعلاء التي ميزت الشخصية العربية التي عدت نفسها على الدوام أمة الشعر، فالمقولة (الموروثة): “الشعر ديوان العرب” كانت اختصارا لحالة من الشوفينية التي ميزت العقلية العربية (الحديثة) التي رأت في شعرها نسقا بلاغيا مستعليا على سائر منتجات الأمم والحضارات الأخرى، فالكثير من التاريخ المدون في أمهات الكتب كان منخرطاً في تمجيد هذا النسق الاستعلائي للبلاغة العربية إلى أن استشرت هذه المقولات وترسخت في وجدانها.
ــ أزمة الشعر :
ربما يكون الشعر في أزمة! ولكن أزمته لا تكمن في ماهيته، حيث أن الشعر العربي، وخاصة في شكله الأجد ( التفعيلة وقصيدة النثر )، يشكل ظاهرة إيجابية متقدمة، في خروجه على المقدس (فقه الخليل ابن أحمد)، وقدرته على الانفتاح والتناغم مع الحضارة الإنسانية في مسراها الحداثي، خاصة بعد انكسار كل مشاريع النهضة والحداثة الأخرى في وطننا العربي، مثل المشروع الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي، وعدم قدرتها على مفارقة أحضان فقهها! ولهذا يقع الشعر في أزمة تحليقه وحيدا في فضاء التجديد والحداثة، ومطاردة المقدس له في تصورات الأكثرية من المتلقين الذين تخرجهم مناهج التعليم المهمشة للشعرية الجديدة! أو الذين لا زالوا يتلقون الشعر الجديد بآذانهم! فهناك حيرة بين القديم والحديث.
ــ الشعر والرواية :
الشعر بخير، والدليل على ذلك أن الرواية لم تستطع سحب البساط من تحت أقدام الندوات الشعرية في القرى والكفور، فضلا عن المنتديات الأدبية التي تعج بها المدن.
ــ الشعر والهوية :
تأصيل الهوية من مهام الإبداع عامة والشعر خاصة.. ولكي نفهم قضية الهوية حق الفهم لا بد أن ندرك أننا لا نتلقى الواقع في موضوعية مطلقة سلبية تكتفي بالرصد والتسجيل، فالعقل الإنساني عقل توليدي يبقي ويستبعد ويضخم ويهمش ويضيف ويحذف. وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان، وهو في صميم رؤية للكون.. أذكر أنني كنت في اليمن في بداية تستعينات القرن الماضي بعد توحيد شطري اليمن، وحدثت مشكلات خطيرة ما بين موافق ومعارض لكن في النهاية انتصرت فكرة الوحدة بين الشطرين لأن الشعب اليمني كله وقف وقفة رجل واحد مدافعا عن هويته قبل كل شيء.
ــ الهَمّ اللغوي :
في كتابتي لا يزال الهم اللغوي الخاص باللغة العربية هو ما يشغلني، لأن هذا مسألة وجود، ومن خلال عضوية “جبهة حماة العربية” نكتب الأبحاث الخاصة الهدف منها بحث المشكلات التي تواجه العربية، وتقديم الحلول الناجعة في النحو والإملاء والبلاغة، وتقديم الطرق المثلى لتدريس اللغة العربية.
ــ الوضع الثقافي :
الوضع الثقافي في العالم العربي بخير، وما زلت أحلم بوجود تكامل بين بلدان العالم العربي يمكنه أن يخلق لنا رؤية ثقافية واحدة، وإن كان ذلك أمراً يحتاج إلى سنوات من التعاون كي يتحقق؛ لذا فإننا يمكننا أن نبدأ بعمل خريطة واحدة للعالم العربي، خريطة تخبرنا بالمواقع الثقافية الموجودة في كل بلدان العالم العربي، تخبرنا بكل مواقع الأدب والشعر وموطن الثقافات وأنشطته، تخبرنا بتباين المناطق العربية من الفقر إلى الغنى، من العشوائيات إلى الصحراويات، خريطة نرى أنفسنا من خلالها، وحينها سوف ينتبه الجميع إلى ما يجب عليهم عمله حيال ما يرونه على هذه الخريطة، وهذه بداية وضع استراتيجية ثقافية عربية شبه موحدة، أو على الأقل متلائمة مع كل هذا التنوع والتباين والتفاعل العربي.
ــ مجتمعاتنا العربية والعوائق :
هناك الكثير من الجوانب التي يجب الاهتمام بها لمواجهة العوائق في مجتمعاتنا العربية، على غرار الديمقراطية وتأمين الحريات بكافة أشكالها، والإصلاح الديني على مستوى العالم العربي، والمشاركة السياسية، وإصلاح التربية والتعليم، وتحفيز الابتكار والعمل والإنجاز، وحماية حرية التعبير، ومواجهة النقص في إنتاج المعرفة، ومواجهة القصور على الصعيد التربوي، والاهتمام بالتربية المدنية، والعمل على تكوين رأي عام فاعل.
ــ الغربة والاغتراب :
الغربة نوعان.. الأولى غربة الوطن، وهي مفارقة الأحباب والخلان وهي لاشك قاسية، وقد جربتها كثيرا وكانت تؤلمني أشد الألم حين اغتربت سنوات في اليمن السعيد، ولم يهون علي غربتي سوى حفاوة الشعب اليمني وكرمه ومحبته، لذا بادلتهم الحب ولا زلت أكن لهم كل محبة وعرفان، وأدين لهم بالفضل في محبتي للأدب والشعر والوصف الأدبي لطبيعة بلادهم الساحرة.. أما النوع الثاني هو الاغتراب الداخلي، وهو لا شك أصعب وأقسى من النوع الأول.. غربة الشاعر في وطنه، وأسباب تلك الغربة حيث تتجلى – من وجهة نظري – في سببين وهما فرقة المجتمع، ووأد الطبيعة والفنون، وكثير من الشعراء غادروا أوطانهم عندما لم يجدوا مناخا مناسبا مثل نزار قباني، ونازك الملائكة، والبياتي وغيرهم.
انتهى
عن موقع: فاس نيوز