أجرى الحوار كل من: الدكتورة نورا مرعي __ د. فاطمة الديبي / ذ. نصر سيوب
******************************************
ــ “مَنْ أكون”:
نورا مرعي؛ ولجت في حارة صيدا إحدى القرى القريبة من صيدا بوابة الجنوب في 2/10/1984.. نشأت في هذه البلدة الصّغيرة اللّطيفة الّتي تحتضن أطيب النّاس وأرقهم… وترعرعت فيها حتى بلغت الرابعة والعشرين من عمري فتزوجت وانتقلت الى كفر جرة ضيعة جميلة جدا في قلب وادٍ أعيش فأهيم بالشعر والكلمة… درست في عدة مدارس وتنقلت بين مدرسة راهبات عبرا وتكملية البنات وثانوية البنات الأولى حتى وصلت الجامعة فحصلت على إجازة تعليمية في اللغة العربية وآدابها ثم أكملت الدبلوم والماجستير في الجامعة الإسلامية حتى حصلت على درجة الماجستير بتقدير جيد جدا … حاليا أنهيت سنة أولى دكتوراه في الجامعة اللبنانية وأكمل سنة ثانية بأطروحة بعنوان ” تنوع الدلالات الرّمزية في الشعر العربي الحديث .. محمود درويش وبدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس أنموذجا”.. وهي دراسة تتألف من خمسة فصول، سيكون في كل فصل عرض لنوع من الرّموز عند الشّعراء المعنيين، وكيف تمّ توظيف الرّمز فنّياً في النّتاجات الأدبية عندهم، ويبقى الفصل الخامس للقيام بموازنة بينهم للوقوف على مجال الاتّباع والإبداع.
ــ “الأماكن والفضاءات والذكريات”:
الكاتب والشّاعر يتأثر أكثر من غيره بما يمرّ به، وتشكّل الذّاكرة ركناً خاصّاًً يعود إليها ليستحضر تأثيراتها الكثيرة في كتاباته… إنّ طفولتي أدّت دوراً مهمّاً في تكوين أولى أدواتي الكتابية، ولكن ذكريات المراهقة قد كان لها الوقع الأقوى والأهم فكان أن جسّدتها في قصائد عدّة بعضها نُشر وبعضها الآخر ما زال حكراً لي.. لأنني لم أرد نشره. ولكن الفضاءات المتتالية هي الّتي جُسّدت في كتاباتي وأقصد بذلك تأثيراتي بمن حولي، وبالحياة والصّعوبات التي نمرّ بها، وبالمرأة ككيان يسعى إلى أن يتواجد ويتعثّر أحيانا، فيعبّر أو لا يعبّر أو يصمت.. إنّ هذا الكيان هو من أعبّر باسمه أنا فكان أن ظهر ديوان ” نفحات أنثى” بعد ديواني الأول شظايا من الذّاكرة…
ــ “نصّي الأول”:
النّص الأول كتب للتّعبير عن حالة جميلة عشتها في حياتي وهي حالة الحبّ، والنص الأول لم يكن نصّاً عادياً، ولكن للأسف فقدته منذ زمن، ولا أدري إن كان باستطاعتي الحصول عليه. ولكن لاحقاً كتبت بطريقة مختلفة، وبشكل أعتبره مميزاً عن ما كتبته في بداية مشواري الشّعري، وفي جميع الأحوال يمكن اعتبار النّص الأول المغاير قد اطلع عليه عدد من الدّكاترة في الجامعة ومن بينهم د. ربيعة أبي فاضل، ود. نسيم عون، بالإضافة إلى د. خليل كاعين الّذي شجّعني منذ البداية على نشر القصائد في ديوان.. وله الفضل الأكبر في تحفيزي على نشر الدّيوان، ومن ثمّ د. ربيعة أبي فاضل الّذي كتب مقدمة أولى دووايني “شظايا من الذّاكرة” وكان ذلك دليل إعجاب بما يحتويه.
أمّا بالنّسبة للعائلة فقد كانت سعيدة جداً بهذا الإنجاز الّّذي أقدمت عليه، وقد عبّروا في غير مكان عن ذلك. أما الأصدقاء فهناك من تفاجأ وطرح سؤالا “متى كتبت نورا الشّعر؟” فكانت الإجابة بفيلم حضّرته بعنوان: “تجربتي الشّعرية”؛ حيث بيّنت للجميع امتلاكي قدرات شعرية لم يعرفوا بها مسبقاً.
أمّا النّص الأول الّذي نشر فقد قمت أنا بنشره في المجموعة الّتي أنشأتها “دندنات مع الرّوح”.
ــ”متى أكتب”:
أكتب عادة حين أشعر بالحزن، أو بالحب، أو بالسعادة. وحين أمر بتجربة مميزة أخلّدها كتابة في قصيدة، وأحيانا أكتب ليلا، لكن معظم كتاباتي تخرج مني صباحا وخصوصا عند الفجر..
ــ “رَجُلي مَلِكاً فوق أحرفي”:
كما في قلب كل شاعر امرأة .. ففي قلب كل شاعرة رجل يحرّك مكامن القلب والرّوح معاً.. ويعبق في ثناياها حبّاً مميّزاً، فتفيض الرّوح من كأس الغرام لتسكبه في قصائد يرتوي منها محبو الشّعر وعشّاقه.. إنّ رجلي الّّذي يحركني لن يكون أي رجل فهو يمتلك أسلحة الحبّ كاملة.. ويعرف متى وأين وكيف يحرّك مشاعري.. إنّ رجلي ليس كامناً في أعماقي بل ملكاً فوق أحرفي وجملي وقصائدي وهو من قلت فيه:
لن أسميك رجلا
أنت كلّ الرّجال
أنت قاتل وقتيل
تقلّدني إكليل المعجزات
كيف خرجت مني؟
والوقت بيننا نام
وبين أصابعي الذّهبية ارتسم كل الكلام
قرّبني منك واحملني فوق أكفّ الاعترافات
وكن لي عقيدة
أكن شهيدة العقائد لا محال
وهو من اعتبرته كل شيء في الحياة؛ البسمة والآهة والكلمة والرّوح والقلب والشّعور والشّمس والدّفء والمعجزة فكيف سيكون رجلا عادياً؟؟؟؟؟ وإن كنت قد سيّرته فوق قصائدي سيّداً فهنيئاً لكل شاعرة فيمن يحرّك فيها الكلمة النّابضة…
سيدي…
ما الحياة من دونك سوى ضيق وآهة..
واصطفاف كلمات العشق فوق أحرفي
ما الحياةُ إن بعدتَ ورحلتَ من دون عناقي
سوى سيف طاعن في القتل
سيدي…
لا تظن أنّني في قداسة الحبّ أهيم
إن لم تكن حاضراً بقربي…
ــ “بين الشعر والرواية والنقد”:
لكل مجال طعمه الخاص، ولكل مجال كتابته الفريدة، وأنا وإن كنت بدأت في مجال الشّعر أولا، إلا أنني أرى نفسي لم أكتفِ به فكان أن كتبت الرواية الّتي أخذت ربما وقتاً طويلاً منّي وما زالت ولكنّني أحببت ما أقوم به، وشعرت أنّ الشّعر يعبّر عن حالة معينة قد يعيشها الفرد يوميا، إلا أنّ الرّواية لها طريقة مختلفة، إذ تجعلك تحلّق في عالم آخر وتعيش حالة أخرى.. أمّا النّقد فقد بدأته حين قمت بنقد لكتاب “وهل يخفى القمر” لرئيف خوري، وقد لاحظت أنّ النّقد البنّاء بالتّأكيد يفيد القارئ، ويبيّن له وجهة مختلفة تساعده في فهم ما يسعى إلى إيصاله الكاتب نفسه، وربما ييسر له فهم بعض النّقاط ولفت الانتباه إلى بعض الأفكار الّتي يشير اليها الكاتب.
ــ “أنا لبنانية“:
أنا لبنانية وقد ساعدني انفتاح مجتمعي على التّعبير بشتّى الوسائل والطّرق والعبارات الّتي أودّ نشرها، إذ سهّل عليّ إمكانية الكتابة بمواضيع عديدة .. وقد أتاح انفتاح المجتمع القدرة على نشر القصائد الّتي كتبتها سواء أكانت في الحبّ أم الغزل..
ــ ” البداية والخوف”:
بالنسبة لموضوع الخوف فلا أنكر أن لحظات نشر ديواني الأول قد خفت كثيرا من عدم إعجاب الجمهور، ولكن والفضل لله أولا قد نال الإعجاب وبشكل واضح ما شجّعني على إصدار الديوان الثّاني..
ــ “كتاباتي بين الوطنية والحب”:
بالنسبة للكتابات الوطنية فأنا قد كتبت ما يقارب عشرين قصيدة وكلها منشورة على صفحات الانترنت، وعلى صفحاتي الشعرية، ومجموعاتي، ولكنني أكتب كثيرا في الحبّ… ويعود ذلك إلى امتلاكي رهافة في الحس، وقدرة على تجسيد الحالات التي أمرّ بها وتمرّ بها النّساء جميعا… ولا أنكر أن اطلاعي وثقافتي قد ساعداني في صقل موهبتي الشّعرية، وتمكّني من التعبير بمرادفات غنية، واستخدام الأساطير والرّموز في عدّة قصائد …
ــ “أنا كالفراشة“:
أجد نفسي في كل مكان؛ في البيت، وفي العمل، وفي الدّراسة، وفي الكتابة.. وأعطي كل أمر حقّه، ولا يمكنني أن أعيش بمعزل عن كل هذه الأمور.. فأنا كما شبّهوني بالفراشة الّتي تتنقل من مكان إلى آخر.. تستهويني كثيرا المدرسة الرّومانسية والرّمزية، وأحبّ قراءة الشّعراء الّذين كتبوا وفق هاتين المدرستين، ويعود الأمر إلى أن المدرسة الرّومانسية بعاطفتها الجيّاشة تستهويني، أمّا المدرسة الرّمزية فأعشق غموضها وإيحاءاتها ويعني لي قراءات نقدية لها ومحاولة تحليل قصائدها واكتشاف مكنوناتها الدّاخلية.. أما فيما يخصّ المدارس النّقدية فستهويني مدرسة التّحليل والنّقد النّفسي، لأنّها تمكننا من الغوص في معالم الكتب لنقوم بقراءات نقدية تحليلية ونفسية في آنٍ معاً…
ــ “بِمَنْ تأثّرت”:
إنّ أي شاعر يتأثر بغيره، وأنا قد قرأت الكثير من الشّعر وتأثرت بشعر بودلير وخصوصا ديوانه أزهار الشر ” les fleurs du mal” الّذي سيطرت عليه القصيدة الحداثية.. أما في الشّعر العربي فقد قرأت الشعر القديم وتأثرت بابن خلدون من العصر الأندلسي، والمتنبي من العصر العبّاسي، وجميل بن معمر من العصر الأموي، وبجبران خليل جبران من عصر النّهضة، وخليل حاوي ومحمود درويش من العصر الحداثي..
ــ “الشاعر بين البداية والنهاية“:
كل واحد منّا بدأ يكتب بشكل عادي، لذا نرى الكثير من الشّعراء يرفضون ما كتبوه بداية أو يعمدون إلى تحسين كتاباتهم أو إلغاء قصائد كتبوها من طبعات ديوانهم الجديد، كما نلاحظ مثلا عند أدونيس؛ ففي طبعة ديوانه الجديد الأعمال الشّعرية الكاملة قام بإلغاء بعض القصائد وعدّل بأشياء.. تدري لماذا لأنه اختلف كثيرا عن بداياته… والسّيّاب مثلا حين كتب دواوينه الأولى وكتب الدّواوين الأخرى في مرحلة تأثره بالأسطورة والرّمز كان مستوى الإبداع عاليا جدا جدا.. والاختلاف بين البداية والنهاية يعود إلى صقل الموهبة والتجربة والقراءات المعمقة للأدب الغربي والعربي على السواء.. لذا كل من أراد أن ينمّي قدراته الشّعرية عليه أن يعمل على صقلها، وذلك لا يكون إلا عبر القراءات الكثيرة للشّعر، وللأساليب الشّعرية، وللرموز والأساطير، خصوصا إن كنا نتكلم على الشّعر العربي الحديث.. بالإضافة إلى الإكثار من الحوارات الأدبية الّتي من شأنها أن تنمّي عند الجميع موهبة الشّعر إن كان يمتلكها..
ــ “الشعراء المغاربة والمدارس الشعرية المغربية”:
لا شكّ أن الشّعر المغربي شعر رائع وشعراؤه متميزون، ولقد تسنّى لي من خلال موقع “الفايسبوك” أن أطلع على بعض الشّعر المغربي لشعراء مغاربة، أمثال الشّاعرة فاطمة بوهراكة، والشّاعر أحمد حضراوي وأنا بصدد قراءة ديوان له الآن، ومتابعة لقصائد عدّة ينشرها.. و لا أخفي أن شعرهما قد نال إعجابي، وبيّن لي قدرات مميزة عندهما.. لذلك أشكر الله على النّعمة الكبيرة الّتي قدّمها لنا من خلال تحويل العالم إلى قرية كونية، لأنّه مكّننا من التّعرف بشعراء من كافة أنحاء العالم.. وعلى الرّغم من بعد المسافة إلا أنّه قرّب كلماتهم وشعرهم منّا.. كما تمكّنت من التّحدث مع بعض شعراء المغرب في أوقات معيّنة وعرّفنا بكتاباتهم..
أمّا بالنّسبة إلى المدارس الشّعرية المغربية فقد كان للمغرب كما كان للمشرق تغييرات على صعيد القصيدة العمودية حيث نالها ما نال البلدان الأخرى من تغيير.. فالحداثة لم تقتصر على الشّرق بل وصلت حتى الغرب نتيجة التأثير الغربي، والترجمة والتعريب الّتي عمّت القرنين الماضيين، بالإضافة إلى تعرف الجميع إلى مدارس الغرب، وتأثرهم بها ونقلهم التّجربة إلى المشرق والمغرب عن طريق الشّعراء والنّقاد والدّارسين.. وقد تسنّى لي قراءة الشّعر العمودي المغربي والشّعر الحداثي عندهم، أمّا إن كان هناك مدارس مختلفة عمّا عرفناه فأرجو أن أتعرّف بها.. ولا مانع من ذلك لأنّنا متعلمون مدى الحياة، وباب العلم واسع لا يقف عند مستوى معيّن بالنّسبة لي..
ــ “دوافع الكتابة والامتناع”:
يعيش الشّاعر حالات كثيرة تدفعه إلى الكتابة والتّعبير عن خلجات قلبه، قد تكون حالة الحبّ أو الحزن أو الكره أو الغربة الخ… كل هذه الأمور يعبّر عنها بقصيدة شعرية تناسب الحالة.. أمّا الامتناع عن الكتابة فمرده أمور عديدة، أحياناً يشعر الشّاعر بعدم قدرته على أن يخرج ألمه أو مشاعره إلى الخارج، ويكون الصمت أبلغ من الكلام فيمتنع لأسباب عديدة.. ويتوقف..
في الفترة الأولى من حياتي كتبت الحب والحزن والاغتراب عن الحبيب، ولم أكتب يوماً القصيدة الوطنية، ولكن ما يجري في العالم العربي دفعني إلى أن أكتب ما لم أتوقعه يوماً وهو الوطن ولا أقصد بالوطن لبنان فقط بل الوطن العربي أجمع فقلت يومها:
أتخيّل أوطاننا العربيّة
في ثورة ضد التّاريخ
ضد العبودية
ها هي حلب تتقمّص احتيالات الغدر
وبغداد قبلها عانت من الموت
شعب يتدمر فوق مرثية العرب
والأفق يلوح ولا يلوح
كل فجر
أحيي وطني وفي قلبي غصة
لعرب مدجّجين بالغدر
الأزقّة محشوة برماد النّار
وقتلى … وجرحى
وصنوف من الثأر
مجازر ترتكب في حقّ الإنسانية
والفكر يُطفئ آخر شموعه
مصباح علاء الدّين أين أنت؟؟
تجول فوق رؤوسنا دون تفكير
اغضبْ… وسِر حيث نريدك
في حفلة من الأساطير
كيف تتحول شمس العرب إلى ملكة
والغروب يعشعش مع البومة
تلسعنا كل يوم بخبر
شؤمٍ كشؤمها التّاريخي
يخرق الصمت جدار قلبي
ويفورُ يبغي التّعبير
بغداد أنقذي حلبا
أنقذي مصر والنيل
فوق أهداب الأمة أُهذي
ربّما نصير يوماً شعباً صنع مجده
بيدٍ من حديد….
ــ “التحديات”:
بالطبع الحياة مليئة بالتّحديات.. ونحن في كل وقت نبض بتحدٍّ من نوع آخر.. ونتاجاتي كاملة كانت تحديا لزماني وكل من حولي…
ــ “بين العفوية الشعرية والأمواج المعرفية”:
إنّ العفوية الشّعرية والّتي تفرضها الحالة الّتي تعيشها وتمرّ فيها تتوافق مع الأمواج المعرفية ويمشيان مترابطان بعضهما ببعض ولا يمكن فصلهما، لأنّ من يمتلك موهبة ومعرفة، فعفويته تخرج مميزة عن عفوية شخص لا يمتلك أدوات واستراتيجيات الكتابة، والأسلوب يختلف ما بين الأول والثّاني، يعني الأمر لا يحتاج إلى توفيق متعمّد منّي بقدر ما هو يخرج مغايراً للغير… فالمتخيل المتجسّد فوق الورقة مرّ بفترة مخاض عسيرة في الدّماغ قبل أن يصير إلى ما هو عليه.. كما أني اعمد إلى قراءة نقدية لاحقة لما أكتبه فأبدّل قليلا قبل إخراجه إلى الحياة ووضعه بين يدي المتلقّي.. إنّ النّص الشّعري وإن كان وليد لحظة دفق شعوري لكنّه دفقٌ معرفي أيضاً…
ــ “رصاصة قاتلة”:
فيما يخصّ القصيدة الّتي لا أتمنى كتابتها فهي قصيدة الرّثاء لمن أحببتهم في حياتي.. فتلك رصاصة قاتلة لا أريد تجربتها..
ــ “الأدب صياغة لفنية لتجربة بشرية”:
التّجربة البشرية الّتي يعيشها الشّاعر جزء من كتابته وتعبيره، لأن بلا تجربة لا يُمكن أن يكتب… والاختلاف القائم أنّ الجميع يعيش تجارب صعبة ولكن لِمَ يتمكّن أحدهم من خلق قصيدة وفق تجربة معيّنة والآخر لا يمكنه ذلك.. والأمر يعود إلى أن الأوّل يمتلك موهبة شعرية صقلها عبر قراءاته العربية والغربية على السّواء… ومن تلك القراءات اكتسب قدرة عالية فنّية واضحة مقاييسها وأدواتها الأسلوبية.. فيكون الأدب صياغة فنّية لتجربة بشرية عاشها ومكّنته موهبته من إخراجها إلى الحياة بأسلوب أدبي راقٍ.. ويلعب الخيال دوره المناسب في إضفاء الإبداع على القصيدة خصوصاً أن الشّعر الحداثي يحتاج إلى خلق صور غريبة من نوعها وفريدة… والقارئ لدووايني يرى مثل تلك الصور: ( الأريكة الصّماء…. أنا اليوم نكهة ليلكية…. مستنقع الدّهاء، خصلات الفجر، وكيف أتخلّص من كؤوس الخمرِ في يد الحكماء، إلا قصائدي المنكّهة بحروف النّار…. ) وغيرها الكثير من الصّور والعلاقات الّتي أوجدتها في شعري وتعود إلى خيالي وإبداعاتي الخاصة..
ــ “الوهم أو الشعر”:
أعتقد أن بعض من يكتب الخاطرة يتوهم بأنه شاعر، وما هو إلا بشويعر، لأنه يعمد إلى صف كلمات وهو لا يعرف أي شيء عن الشّعر.. فالشعر ليس موهبة بل هو ثقافة، وهو امتلاك لأدوات معيّنة تغني كتاباته وترفعها من المستوى العادي إلى المستوى العالي.. ولكن للأسف المشكلة تكمن فيمن يرفعون من مستوى هذا الشّخص ويكللونه بكلمات مميزة فيصدّق أحيانا أنه شاعر..
ومن يظن نفسه واهما وهو شاعر إن عرض شعره على المتخصّصين، سيدرك أنه مختلف وترجع ثقته بنفسه ويعترف حينها أمام الجميع بقدراته الشّعرية الفذّة..
ــ “الشاعر بين العامية والفصحى”:
الشّاعر عليه أن يكتب باللغة العربية الفصحى وفق المدرسة العمودية أو مدرسة التّفعيلة أو الشّعر الحداثي، ولكن أن يكتب فقط باللهجة العامية فهذا لن يصقل ولن ينمي موهبته، وأنصحه بمحاولة الكتابة بلغته الأم اللغة المميزة عن باقي اللغات، لأن اللهجة العامية لا يمكن الاعتماد عليها، كما أن للشعر مميزات مختلفة تماما وتختص باللغة العربية الفصحى..
ــ “الكتابة الشعرية بين الوزن ودونه”:
هناك فرق واضح بين الكتابة وفق الوزن الخليلي وبين الكتابة وفق التّفعلة أو وفق قصيدة النّثر.. فلكل واحد مميزاته الخاصة والّتي تفرّقه عن غيره.. فالوزن الخليلي يفرض عليك الكتابة وفق بحر معيّن وروي موحّد وقافية أيضاً.. وفي كتاباتك يجب أن تراعي هذا الأمر.. أما شعر التّفعلة فيلتزم الشّاعر وحدات معينة من عروض الشّعر العربي.. وأمّا فيما يخص قصيدة النّثر فإنها تعتمد على الغموض والإيحاء، واستخدام الرّمز وتداخل الحواس، بالإضافة إلى الإيقاع الموسيقي الدّاخلي الّذي يجب أن يُنشئه الشّاعر وإلا اعتبرت قصيدته تصفيف كلام لا غير.. ولكن كل نوع من هذه الأنواع يدخل مضمار الإبداع إذا التزم الجميع بالخصائص الشّعرية، والأساليب المتنوعة، والصّور المبدعة، والموسيقى المميزة.. لا أن يقوم بصف صور شعرية وراء بعضها البعض، أو تقليد الآخر ويعتبر نفسه مبدعاً..
ــ “قصور ثقافي”:
إننا نعاني اليوم من قصور ثقافي ويعود الأمر لأسباب عديدة؛ أولا إن كل من خطّ مجموعة كلمات يعتبر نفسه شاعراً، والمشكلة العامة أنّ الجميع يعلّقون تحت كتاباته بكلمات غريبة: ” رائع ما كتبته….. مميز…. جميل ” إلى ما هنالك من كلمات تجعل هذا الإنسان يصدّق نفسه، وبالتّالي دخل المجال الثّقافي أشخاص أساءوا إلينا.. هذا من ناحية، من ناحية أخرى يعاني الشّعب العربي من مشاكل عديدة وأزمات عديدة، بحيث أنّ الغرب سيطر عليه بطريقة منعته من الالتفات نحو التّميز والفرادة وإن كنّا في زمن ما ” العصر الأندلسي” وصلنا الى إسبانيا وحكمناها ثمانية قرون، وإن كنا لاحقاً التفتنا الى التّراث العربي وأبدعنا، ولاحقاً أخذنا من الغرب ومن مدارسها المتنوعة كالرّومانسية والكلاسيكية والرّمزية والسّريالية… إلا أننا اليوم نتخبّط في بئر آمل أن نقوم منه.. وبالتأكيد كل ذلك يؤثر على الإبداع الفكري والشّعري في آنٍ معاً..
ــ “زمن الرواية”:
فيما يتعلّق بموضوع أننا صرنا في زمن الرّواية أيضا السبب أن القرّاء قلّوا ولم يعد هناك من يهتم بالشّعر والكتابات الشّعرية فيرى أن زمن الرّواية أفضل.. إن الشعب العربي لم يعد يهتم بالقراءة والاستماع الثّقافي، فما رأيك في شعب يسجّل أكثر من ألف شخص حضوره لمطرب أو مطربة ترقص عارية ويصفق لها واصفاً إياها بالمبدعة، ويسجّل كحد أقصى مائة شخص حضور أمسية شعرية فيها من الإبداع الثّقافي والفكري ما يجعلنا نقوم من الانحطاط الّذي نحن فيه. لأن الشّعر رسالة موجّهة إلى النّاس وليست عملا نعيش من ورائه..
ــ “قصيدة النثر”:
إن قصيدة النّثر تغنّى وأكبر دليل على ذلك أن بعض قصائدي أخذت للغناء وليس هناك ما يمنع هذا النّوع من ذلك، لأنّ موسيقاه الدّاخلية أحد أسسه الفنّية… ولا يمكن أن نقول أن هذه الكتابة غير مجنسة.. لا أعرف لِمَ الجميع يعتبر التّقليدي والكتابة القديمة هي الأفضل، أمّا الحداثية فهي كتابة غير معترف بها.. إن الشعر له أنواعه المتعددة فلمَ لا نقنع أنفسنا بذلك؟ ولمَ لا نفرّق بين الكتابة النّثرية الشّعرية وبين صفّ الكلمات الّذي يبعدنا عن المستوى الرّاقي للكلمة؟ وأعتقد أن ما كُتب في المقامات وفي كتب ألف ليلة وليلة يبتعد عن الشّعر الحداثي لأن ميزة الرّمز والأسطورة والغموض لا وجود لها في الشّعر القديم بل ظهرت مع تأثرنا بالمدارس الغربية في أواسط القرن التّاسع عشر.. ببودلير وإدغار ألان بو ومالارميه وفرلين، وحتى لو كان هناك لمع رمزية إلا أنها لا يمكن أن تخرج عن مجال الومضات الرّمزية ولا يمكن اعتبارها رموزاً تحمل صفة الحداثة..
أما بالنّسبة لطرح قصيدة النثر بديلا فأنا أعتقد أن لكل شاعر ميزته، فليكتب كل واحد بالطّريقة الّتي يُبدع فيها ويتميّز بها، من دون أن يطرح أي قصيدة على الرّغم من اقتناعي بضرورة مجاراة التّقدم والتّحديث الّذي يجري، لأن العالم اليوم يختلف عن العالم القديم والماضي مع اعترافي بجمالية الشعر العربي القديم..
ــ “الوزن والاقتصاد في الكلام”:
الوزن يعتبره الشّعراء الحداثيون قيداً؛ لأنه يحدّ فكرهم ويجبرهم على الالتزام بالكلمات التي تناسب الوزن .. أمّا فيما يخصّ الاقتصاد بالكلام فهناك الكثير من الشّعر الحداثي مقتصد فيه .. ويجب أن لا ننسى أن القصيدة الحداثية لها وزن داخلي… وأنا أعتقد أن الشاعر يترك العنان لفكره ورؤيته المستقبلية ليعبّر عنها في شعره وليس للصور الفنية…. الصور تخدم رؤيته الشّعرية والأدبية وليس العكس…
ــ “الصور الشعرية“:
إنّ تراكم الصّور لا يصنع شعراً جيّداً.. لانّ الشعر الجيّد هو الّّذي يقوم على خصائص معيّنة، لا يعتمد فيه على الصّورة الشّعرية المميزة فقط، وقد سبق أن قلت أنّ قصيدة النثر لا تقوم فقط على صورة شعرية بل على رموز وإيحاء وغموض، وموسيقى داخلية، وتراسل الحواس وتداخلها… بالإضافة إلى الفرادة والإبداع في الرموز… ولكن المشكلة أن الشّعراء انفرد بعضهم بإبداعات رمزية رفعتهم إلى مصاف الشعر المميز كخليل حاوي وإبداعه لقصيدة الجسر، وأدونيس وإبداعه لمهيار الدّمشقي ولرموز عديدة أخرى … بينما السّيّاب وان كان يؤخذ عليه في مكان ما ضعف في بعض القصائد وخصوصاً أنه عمد إلى تكديس الأساطير في قصيدة واحدة، على سبيل المثال أسطورة عوليس وبرسفونية، وأسطورة هرقل وسيزيف وبرمثيوس والخ… من الأساطير.. إلا أنه لا يخفى على أحد أنه كان رائد القصيدة الحداثية هو ونازك الملائكة، بغض النّظر إلى أسبقية من؟؟؟ لذا وإن كنا نعيب ذلك التّكديس في بعض الصور لكننا لا ننكر قدرته الفذة وما أدخله إلى شعرنا العربي من تجديد وتحديث… أما أن نقول أن الشّاعر أدونيس ابتعد عن قصيدة النثر فأعتقد أن ذلك ليس صحيحاً، وخير دليل على ذلك دوواينه الأخيرة، وديوان الكتاب ” أمس المكان الآن” الّذي يتألف من 1657 صفحة وكلّها نظّم وفق الشّعر الحداثي، حيث أعاد فيه قراءة الماضي قراءة مختلفة ومغايرة في نوعها، وقد قرأت الدّيوان كاملا…. إنّ ” أدونيس” لم يبتعد عن قصيدة النّثر أبدا ولم يتراجع عنها، إذ أقدم منذ فترة على إعادة تنزيل الدوواين الأولى بطبعات جديدة منقحة من قبله، وقد ألغى بعض القصائد أو العبارات حتى يزيد من غموض كتاباته، وهذا يعني تمسكه بالقصيدة الحداثية. أما ديوان الكتاب فهو على تفعيلة معينة، ولكن هذا لا يعني أنه عاد إلى القصيدة القديمة .. إني وإن كنت أوافق الرّأي بأن قصيدة النثر لم ينجح فيها الكثيرون، ولكن هناك شعراء كباراً قد تميّزوا كصلاح عبد الصّبور وخليل حاوي ومحمود درويش، وما زالت نتاجاتهم الأدبية تُدرس بشكل هائل إلى يومنا هذا…
ــ “الشعر غذاء الروح”:
فالشّاعر يمتلك موهبة دالية تدفعه دائما إلى الكتابة والتعبير عن النّفس في حالاته كلّها، وإن لم يكتب يشعر أن هناك شيئاً داخلياً يتحرك فلا يستطيع منعه من الخروج.. إنّها بمثابة الغذاء للروح ومن دونه لا يستطيع العيش أبدا، إذ يشكّل زاده اليومي الّذي به يقدر أن يبوح بخلجات قلبه وروحه ومشاعره الّتي تختلف نوعاً ما عن باقي النّاس.. وحين تلقي الشّعر تبدأ عملية إخراج ما في الدّاخل، وأحيانا تكون من دون وعي فقط لأنّك تحتاج إلى أن تلقيَ ما يثور من مشاعر قد تكون حزينة أو سعيدة.. ولا أعتقد أن هناك تفسيرا علمياً، لكن على الصّعيد النّفسي له علاقة بما يكنّه ذلك الشّاعر.. فأنا في كل لحظة أشعر بقدرة على الكتابة لأخرج ذاك العصف الدّاخلي من المشاعر الّتي تتضارب وتتصارع في مخاض كي تولد قصيدتي الّتي تجسّد شيئاً منّي..
ــ “مِنَ الحزن يولد الإبداع”:
إنّ معظم النّاس يشعرون بالحزن أكثر من السّعادة ويقولون إنّ السّعادة تمرّ بسرعة، فهم لا يعبّرون عنها بقدر ما يشعرون بها بشكل آني. وأحياناً لا ينتبهون لها فلا يعبّرون عنها، أمّا الحزن فهو يلامس الرّوح ويعشعش في داخلها زارعاً نبضات وتأوهات وأنّات تستمر لفترة من الزّمن، ومن الطّبيعي أن يشعر الإنسان حينها بحزن دفين فيلقيه في كلمة أو جملة أو عبارة أو قصيدة.. أنا مثلاً لقّبت بشاعرة الحزن.. لأنني كتبت كثيراً عن الحزن، ولكن السّبب يعود لكثرة ما يحيط بنا من أمور حزينة وإن لم تكن تخصّني أحياناً لكننا نعيش في زمن مؤلم يصفعنا في كل لحظة بصفعاته المتكررة، من هنا نستسيغ الكتابة الحزينة أو سماع الموسيقى الحزينة… فالحزن أولى المشاعر الجيّاشة الّتي يتأثر بها الإنسان، وأكثرها تعقيداً وإيلاماً، ولكنها في الوقت نفسه من أكثر المشاعر الّتي تنبت في القلب وتخرج إلى القلب مباشرة، ومن الحزن يولد الإبداع عبارة أؤمن بها كثيييرا..
ــ “الحزن والجرس الموسيقي”:
الحزن له جرس موسيقي مثله مثل الحب والفرح والغزل.. في كل موضوع نخلق الجرس الموسيقي، ولكن سبحان الله يبقى للحزن معنى آخر وطريقة دخول مختلفة إلى قلوب الجميع، لأنّ الجميع يعاني ذاتياً وروحياً وجماعياً..
ــ “شاعر الحزن بامتياز”:
فبدر شاكر السّيّاب شاعر الحزن والآلام؛ ناشد أيّوب وصبره ورحل سندباده باكراً، عانق الألم بسبب مرض جسده واكتست قصائده وشاح الحزن والغم إن كان على الصّعيد الذّاتي أم على صعيد الأمّة العربية وما تعانيه من انحطاط وتخلّف.. كتب عن جيكور وكتب عن بويب وكتب عن بغداد و… إنّه شاعر الحزن بامتياز….. وإن كان في حرفه مميزات أخرى مختلفة لكن يبقى أثر الحزن كبيراً عند…
ــ “دلالة الحزن عند كلّ من السياب ومحمود درويش”:
إن أيّ شاعر سيعيش الحزن بطريقة ما لأن الحزن هو حالة تمرّ بنا في لحظات من حياتنا، وتؤثر بنا وبحروفنا، ما يدفعنا إلى كتابتها وتظهر بوضوح من خلال الألفاظ المستخدمة والتّعابير الواضحة الملامح.. فترى الشّاعر يحمل أزمة فينساب الحزن من بين ثنايا الأحرف.. ويحمل الحزن دلالة واضحة قريبة وقد تتعلق بذاته، وبُعيدة قد تتعلق بكلّ ما يحيط به من مآسٍ وعذابات.. فالسّيّاب على سبيل المثال حمل حزنه بُعديْن ذاتي وجمعي.. الذاتي يتمثل بوجعه ومرضه الّذي قضى على حياته باكراً، وبُعيدة تتمثل بوضع الأمة العربية المنهارة والتي أثّرت فيه كما غيره من الشّعراء، ودفعته إلى أن يستحضر الأساطير مبدّلاً بدلالاتها، كأسطورة عشتار التي بدّل دلالتها من الخصب وإعادة الإحياء إلى الموت والجفاء ما يناسب الوضع القائم آنذاك.. كما قال في قصيدته:
وفي غرفات عُشْتارِ
تظلّ مجامر الفخار خاويةً بلا نار،
ويرتفع الدّعاء، كأنّ كلَّ حناجر القصَبِ
من المستنقعاتِ تصيحُ:
” لاهثةً من التّعبِ
تؤوب إلهة الدّمِ، خُبزُ بابلَ، شمسُ آذارِ.
ــ “السياب ودرويش وأثر البيئة”:
فيما يخص بيئة محمود درويش والسياب؛ فإنّ كلاهما عانى من الوضع العربي نفسه، وكلاهما اهتما بالأزمة ذاتها، وإن كان محمود درويش قد عانى مباشرة من اضطهاد العدو الإسرائيلي، وهُجّر من وطنه إلى لبنان وخصوصاً بيروت، ليخرج منها بعد حصارها أيضاً.. وعلى الرّغم من ابتعاد العراق عن الاحتلال الّذي عانى منه الشّعب اللّبناني والفلسطيني إلا أنّه لا يمكن أن نقول بأن الشّاعرين مختلفان في توجهاتهما وأزمتهما العربية، لأن السّيّاب قد عبّر عن معاناة أهل العراق والفقر والجوع، ونَشَدَ في غير مكان التّغيير الّذي من شأنه أن يقيم الشّعوب العربية من الانحطاط والرّكود.
هناك اختلاف بين بيئتي الشاعرين، ولكن التّوجه كان نفسه في مرحلة من مراحل حياتهما… وعنيت بالتّوجه نفسه أي الالتزام برفض كل ما يدور من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية في العالم العربي والانحطاط الّذي ألمّ به… وأما الانتماء الحزبي فهذا لا علاقة له بالبيئة بل بالشّاعر نفسه وانتمائه.. إن كل شاعر قد انتمى إلى حزب في مرحلة من مراحل حياته سواء الشّيوعية أو الحزب القومي السّوري ( فيما يتعلّق بشعراء بحثي وغيرهم..) لكن جميعهم في الختام خرجوا لأسباب عديدة، ولأنني أرى أن الشّاعر لا يمكن أن يُبدع وهو في ظلّ حزب .. أما مشاكل السّيّاب فلا تقتصر على فصله من مهنته فمشاكله كانت كثيرة ومن النّواحي كلّها، فقد عانى في الحبّ والعمل والوظيفة والشّكل الخارجي الّذي لم يكن يُعجب النّساء، بالإضافة إلى المرض وتنقّله بين مستشفيات نيويورك… أعتقد أن الحزن أسبابه عديدة عن السّيّاب وخصوصاً عنده من دون أدنى شك، لأنّه عانى منه من كل جوانبه وليس من جانب واحد..
ــ “السياب وقصيدته أقداح وأحلام”:
اِستلهم العديد من الشّعراء الحداثيين موضوعاتهم وقصصهم المتعدّدة من الحياة وما عانوا منها، ووظّفَتْ تجاربهم بصور فنّية وشعرية مميزة، بهدف أن يوصّل الشّاعر فكرته بطريقة رمزية أو مباشرة وفق الحالة، بثّ من خلالها الأفكار التي تتضارب في رأسه، والّتي يريد إيصالها إلى القارئ. ومن يقرأ دوواين السّيّاب لا يستطيع أن لا يعرف أنه نقل تجربته الحياتية والشّخصية من خلال نتاجاته الأدبية، وهي إن دلت فتدلّ على تجربة عميقة. ولكن القارئ يدرك أن مواضيع السّيّاب تنوّعت وفق ما عاشه من آلام، فهو عبّر عن الحب، وعن الفقر والجوع، وخوفه من ضياع الأمة العربية، وانتكاسات الواقع المتكررة …. إن قراءة متأنية لتلك القصيدة تبيّن لنا إحساسه بالحب وحرمانه منه، ولا ننسَ أن المرأة قد شكّلت في حياته هاجساً غريباً رافقه بالإضافة إلى صراعاته بسبب اليتم والغربة والمرض، والحب الّذي كان يأخذ شكل الحب من طرف واحد.. من هنا فالقصيدة لا يمكن أن تكون قصيدة عبّرت عن خوف عادي أو خوف من الطبيعة، بقدر ما هو تعبير عن حب وُلدَ وتأزّم به السّيّاب.
إن السياب لم يحمل خوفاً منذ الصغر إلا أنه حمل فشلا ذريعا، وألما كبيرا، رافقه بسبب وفاة والدته، ووفاة جدته، وفشله المستمر في الحبّ، فأبدع في الكتابة لأن الشعر لا يأتي مما يُتاح لنا بل من المستحيلات.. تلك الضربات المتكررة والصدمات ولّدت شاعراً مميزا كتب ما كتب…
والقصيدة الموجودة أمامنا تحمل دلالات الحب لفتاة كانت غنية في حين كان السياب فقيرا، فكيف تنشأ علاقة الحب فقال لها:
أنا حائر متوجف قلق كالظل بين جوانب البحر
المد قربني إلى شبحي والآن تبعدني يد الجزر
وأنا الضياء تخيفني دجن وأخاف أن سأضيع في الفجر
يا نوم كل عوالمي حجب ولو التقيتك ذابت الحجب
و انثال ، من سهري على سهري ينبوعك المتثائب الرطب
أثملت بين جوانحي أملا ما كنت أعلم أنه أمل ..
يعاني الشاعر من الحيرة والقلق لأنه لا يعرف كيف يجعل تلك الفتاة تحبّه، فهو قريب منها ولكنّ البعد يرسم معالمه بشكل أوضح.. لذا يخاف من أن يبتعد عنها لأن ذلك معناه ضياع الشاعر.. أما اللقاء فسيزيل الحجب كافة .. لذا نراه يسهر في التّفكير بها، والكتابة عنها، فهي ملهمته الشّعرية.. وينبوعه الرّطب.. وهو ثمل سكران في حبّه ويأمل منها الحب ( أثملت بين جوانحي أملا)….. ليقول في مكان آخر من القصيدة:
يا ليل ، أين تطوف بي قدمي ؟ في أي منعرج من الظلم
تلك السبيل أكاد أعرفها بالأمس خاصر طيفها حلمي
هي غمد خنجرك الرهيب ، و قد جردته ومسحت عنه دمي
تلك السبيل على جوانبها تتمزق الخطوات أو تكبو
تتثاءب الأجساد جائعة فيها كما يتثاءب الذئب
حسناء يلهب عريها ظمئي فأكاد أشرب ذلك العريا
وأكاد أحطمه ، فتحطمني عينان جائعتان كالدنيا..
يسائل السياب الليل عن منعرج الظلم الّذي يمرّ به.. فقد قابلها في الحلم لأن طيفها قد مرّ…. وغرزت خنجرها الرّهيب فيه.. ثم أزالته ماسحة دم السّياب، وفي ذلك إشارة إلى عمق الحب من قبله… لذا يريد السبيل إليها ولكن خطواته تتمزق، أي أنه لن يصل أبدا… لذا تثاءب الجسد فهو في حالة ألم وجوع للحب والعشق، وفي تثاؤبه يشبه الذئب الجائع.. فقد ألهبت مشاعره تلك الحسناء وهو في ظمأ لها، وفي عريها شعر بالظمأ وأراد أن يرتوي من حبها، وأن يحطم ذلك العري إلا أن عينيها حطمته.. لذا فالسياب يشير هنا إلى حبّ لفتاة أخذت قلبه فاستخدم الصور الملائمة للتعبير عن خوالج قلبه تجاهها، وأخذ من عناصر الطبيعة كل ما يلائم الحالة العاطفية التي يمر بها…
ــ “الرمزية ونزار قباني”:
يجمع مؤرخو الأدب على أنّ الرّمزية كمذهب فكري وتجليات أدبية، كانت قد ظهرت في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، وبدأت بالتّبلور في فرنسا كردّة فعل على الرّومانسيّة والبرناسيّة والواقعية، واستمرّت حتى أوائل القرن العشرين معايشةً تلك المذاهب، ثمّ امتدّت حتّى شملت أميركا وأوروبا.
إنّ التّعبير الرّمزي كفكر وكبنية جمالية متكاملة وكوسائل تعبيرية قد بدأ في نتاجات شارل بودلير (1821 – 1867) في ديوانه ” أزهار الشّر” les fleurs du mal الّذي أحدث عند نشره في عام 1857 جدلاً عنيفاً بين بعض فئات المجتمع الفرنسي المحافظة، وقد أراد فيه تعبيرات جديدة في الشّعر، ووظّف الرّمز بشكل واسع. وبعد المثاقفة والتّرجمات بدأ في العالم العربي مرحلة جديدة من الكتابة وهي مرحلة الرّمزية مرحلة تجديد في الشّعر بشكل عام، لأنّ الانتقال إلى الرّمزية في الشّعر العربي ترافق مع تغيّر بناء القصيدة العربيّة، وإعادة النّظر في تنظيمها الموسيقي، إذ لم يتخلََّ الشّعراء عن الموسيقى بل أعادوا توزيعها.
ومن الشّعراء الّذين كان لهم قصب السّبق في الميدان الرّمزي العربي نذكر أديب مظهر، يوسف غصوب، وصلاح لبكي وقد كان لهم الدّور التّأسيسي الّذي اضطلعوا به، كذلك سعيد عقل الّذي نجح في إرساء قواعد المذهب الرّمزي، فضلاً عن جبران خليل جبران في قصيدة المواكب، لتظهر بعد ذلك عند السّيّاب في قصيدة ” هل كان حبّاً“ ونازك الملائكة في قصيدة ”الكوليرا“. إذاً الرّمزية وبعد قراءاتي الكثيرة وغرفي من كتب عديدة أكّدت مَن مِن الشّعراء أدخلوا الرّمز إلى قصائدهم، ولكن لم يكن هناك إشارة لنزار قبّاني… على الرّغم من أنه قدّم تجديداً مغايراً من خلال نظرته إلى المرأة، وسعيه إلى التّعبير عنها في معظم دواوينه… ولا يمكن اعتبار الشّعر الحداثي شعراً بعيداً عن الرّمز والأسطورة والعناصر الأخرى كتراسل الحواس والدّفقات الشّعورية الغامضة والإيحاء… لأنّها تشكل جزءاً مهمّاً فيه… وأحد عناصر الشّعر الحداثي الّتي يفترض تواجدها وإلا عدّ خاطرة شعرية….
ــ “المرأة اللبنانية”:
كل امرأة سعت إلى الوصول لهدفها وطموحها، وأوجدت نفسها في المكان المناسب، هي إمرأة تمكّنت من تحقيق ما تريده، ووصلت إلى المكان الّذي وضعته نصب عينيها، لذلك المرأة صار لها وجود سواء في لبنان أم في العالم العربي وفي الأصعدة كافة، ولا يمكننا أن نقول إنها لم تحقق وجودها لأننا نظلم هكذا النّساء الرّائدات عندنا…
ــ “روايتي”:
روايتي الجديدة “هذا هو قدري”؛ رواية تحمل رؤية غريبة من نوعها، ولكنها تسلّط الضّوء على معاناة أي امرأة عربية في الحياة العامة، ولا يمكن أن أقول أكثر من هذا لأنني في صدد العمل على تنزيلها إلى السوق. وأودّ أن تكون مفاجأة .. ولاحقا بعد نزولها قد نشير إلى مضمونها علناً…
ــ “هواياتي”:
بالتأكيد المطالعة هي أهم هواياتي، وقد كان لها تأثير كبير في توسيع مداركي الفكرية ومخزوني اللّغوي، وثقافتي، إلا أنني أمتلك موهبة أخرى هي موهبة التّصوير وأحب أن أدعم بعض قصائدي بمشاهد مصوّرة بكاميرتي الخاصة.. كما أحبّ الطّباعة ومنذ الصّغر سعيت إلى امتلاك آلة كاتبة كي أطبع كل ما أقوم بكتابته..
ــ “طموحاتي”:
أطمح أن أبدّل شيئاً ما في هذا العالم، وأن تكون صرختي هي صرخة إنسانية مسموعة عند الجميع، خصوصاً أننا نمرّ بفترة صعبة ولا أحد يسمع لأحد… فأنا كإنسانة أودّ نشر السّلام والمحبة بين الجميع، وأسعى إليهما، وكل من يعرفني شخصياً يعرف أنّ المحبة والسّلام جزءان منّي.. لأنني أحبّ الجميع، وهذا مبدأ أعتمده لأنّه مبدأ إنساني صرنا لا نراه إلا قليلاً… أما طموحاتي الأخرى فهي بالتأكيد أن يحلّق اسمي عاليا في سماء الشّعر.. وأن أكون الشّاعرة الّتي أوجدت بكلمتها كلمات الحياة.. لأنني لم أخلق لأموت من دون فعل شيء، بل خُلقت لأوجد نفسي وكياني.. حتّى بعد موتي يقولون : قد كانت امرأة مميّزة.
ــــــالهامشــــــــ
ملحوظة : تم الحوار مع الشاعرة والكاتبة اللبنانية الدكتورة نورا مرعي شهر يونيو 2013 .
عن موقع: فاس نيوز