بعد روايتها الأولى “ولي النعمة” الصادرة سنة 2018 أطلت الروائية سلمى مختار أمانة الله على عشاق الرواية العربية بعمل جديد اختارت له عنوان ” عمر الغريب” وهي رواية صادرة عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2022 في 273 صفحة. قبل أن نقف على بعض تجليات الغربة والاغتراب في الرواية، سنحاول أن نختزل أهم أحداث المتن الحكائي حتى يستطيع القارئ الإحاطة بما سنناقشه:
تفتتح الرواية والبطل عمر يرى نفسه ميتا (جسدا غارقا في بركة دم خاتر …) وروحه تتنصل من الجسد لتتحرر تلك الروح من كل القيود التي كانت تكبلها وينطلق لسانها من عقالها في تدفق سردي يحكي تفاصيل شخصية عاشت حياة معذبة بلغة شعرية: وجد عمر نفسه في وسط اجتماعي فقير معدم تنعدم فيه أبسط ظروف العيش الكريم، لا يعرف له أبا يعيش مع أمّ جردتها قسوة الحياة من كل مشاعر الأمومة، ودفعتها إلى التخلي عن فلذة كبدها بعد أن أجلسته بباب مسجد وأمرته أن (لا تتحرك من هنا. أمرتني ومضت دون أن تكلف نفسها عناء الالتفات خلفها…) . ظل مجمدا في مكانه ينهشه الجوع والهلع، حتى إذا كادت أن تنقطع الحركة في الشارع العام بعد صلاة العشاء وجد نفسه محاطا ببعض مُصلين لفظهم المسجد، يفتشونه ليجدوا بحوزته رسالة كتب فيها (هذا الولد بصحة جيدة وبلا أهل خذوه لن يسأل عنه أحد) . وبعد أخذ ورد وتردد على قسم الشرطة (المخزن) وجد نفسه يعيش مع إمام المسجد معتقدا أنه وجد خضنا يأويه ، يحفظ بعض السور القرآنية، قبل أن يستفيق على فاجعة كبرى تعرض فيها للاغتصاب على يد الفقيه الإمام… فلم يجد إلا أن ينتقم منه بصب الماء المغلي على راس الإمام (أمسكت بمقبض مقراج الشاي الذي كان يغلي مع غضبي فوق النار … فوق رأسه الحليق المنحني أمامي دون أدنى تردد قمت بسكب الماء المغلي دفعة واحدة …) ويهرب بعيدا محتميا بشاحنة، نقله سائقها بعيدا، حتى إذا نزل السائق في إحدى محطات التزود بالبنزين ورأى الصبي رجال الدرك يتحركون في مسرح عينيه، تسلل هاربا من الشاحنة معتقدا أنه مبحوث عنه، ويسقط مغميا عنه متأثرا بضربة شمس لم يستفق منها إلا وعجوز حكيمة تسقيه محلول عسل حر صاف ممزوج بقطرات الحامض، ليجد نفسه غريبا وسط عائلة قروية تتحكم العجوز في كل دواليبها؛ عائلة مكونة من عجوز وأبنها سي علي وزوجته وابنهما؛ يشتغل سي علي حارسَ مدرسةٍ، سيتوسط لدى مديرها ليلتحق عمر الغريب تلميذا بفصولها رفقة محمد ابن سي علي… في المدرسة أظهر عمر تفوقا منقطع النظير مما الب عليه زوجة سي علي وهي تراه متفوقا على ولدها محمد… ساعده تفوقه على الحصول على منحة لمتابعة دراسته الثانوية بتدخل من مدير المدرسة، وبعد حصوله على الباكالوريا بتفوق التحق بكلية الطب وتخرج فيها واشتغل طبيبا لأمراض النساء والتوليد ويحقق نجاحات باهرة لكن نذوب الطفولة وما عاشه من حرمان جعله يتصرف تصرفات مريبة طيلة حياته، قصدته ابنة المدير –التي تعلق بها في طفولته- تطلب حلا لحملها وإجهاضها، ليفاجئها بطلب يدها للزوج تحقيقا لحلم طفولي، لكن سرعان ما انقلب عليها كما أو أن زواجه كان بغرض إذلالها، ففي ليلة الدخلة وبعد أو لقاء جنسي يفاجئها بأسئلة محرجة منها:
- من يعجبك أكثر أنا أم صاحبك الذي تركك بعد أن شبع منك أيتها العاهرة؟
لتتأجج صراعاته الداخلية وينشطر بين راغب في الحصول على ذرية وإن لم تكن من صلبه ورافض الزواج من امرأة حامل من غيره، يتمزق بين تعنيفها وراغبة في نسبة الولد إليه، لينتهي نهاية مأساوية مقتولا بطلقة رصاص لم يعرف صاحبها، ولا دليل على الفاعل سوى تلك الورقة الموجودة بجانب جثته وقد كتب عليها “عمر قتلني” ليبقى مقتله محيرا، لولا ذلك الاستدراك الأخير في نهاية الرواية. يتضح من خلال المتن الحكائي أن رواية عمر الغريب للروائية سلمى مختار أمانة الله أنها رواية عصية على التصنيف فهي ليست وراية غرائبية ولا تاريخية ولا هلاقة لها بالخيال العلمي ولا رومانسية لأن الرومانسية تنشد القيم المطلقة وتهرب بالأبطال من المدينة نحو الطبيعة والبادية و… في حين رواية “عمر الغريب” تعكس أزمة قيم وحتى وإن أخذت البطل من المدينة إلى البادية فليعيش عذابات أخرى أفظع مما عاشه بالمدينة… هي رواية وإن قاربت قضايا واقعية تتجاوز معالجة قضايا الواقع، بل تتجاوز الواقعية الصرفة وحتى الواقعية الانتقادية التي تكشف عورة الواقع وتقف عند حدود نقد وانتقاد ما هو سائد، لتقدم بطلا مأساويا، بطلا إشكاليا يثور على واقعه ويغيره، وبطلا يصنع قدره رغم ما عاشه من غربة واغتراب…
فما عاشه وعايشه عمر روائيا حوّل حياته سلسلة رزايا ومصائب، وجعله يعيش غرابة في الواقع واغترابا داخليا، وما وصفُ عمرٍ بالغريب في عنوان الرواية إلا دليل قاطع على تلك الغربة التي تورط فيها عمر روائيا، وهي غربة مرتبط بانهيار صورة المقدس أمام عينيه، يقول هايديجر (الغرابة هي ذلك الحيز المكاني الفارغ الناتج عن فقدان الإيمان بالصورة المقدسة)، فأي إحساس يُخلق لدى طفل ما أن فتح عينيه على العالم حتى رأى صور كل المقدسات تتهاوي أما عينيه: صورة الأم رمز الحنان والصفاء والقداسة وهي تقسو على فلذة كبدها قسوة رمت به إلى تخوم الإلحاد، لم يتصور قسوة مثلها حتى قسوة الله على الكفار ليقف – بعدما حكى له الفقيه ما يمكن أن يفعله الله بالكفار- متسائلا: (هل الله أقسى من أمي) … كما تهاوت أمامه صورة الفقيه الإمام الذي يؤم الصلاة بالناس ويقدمون له فلذات أكبادهم ليعلمهم الحكمة والدين، لما تخلى ذلك الفقيه عن كل تلك الهالة والقدسية واستسلم لغريزته الحيوانية، ويغتصب طفلا برئيا لا يبحث إلا عن حضن يشعره بالأمان… وعلى نفس الهدي تهاوت أمامه صورة المدرس و صورة الطبيب وصورة كل رمز وكل مقدس… اختلطت لديه القيم في مجتمع هيمنت فيه اللامعيارية والأنوميا، فلم يعد يميز بين الصديق والعدو، ولا بين الشر والخير، بين الخيانة والوفاء… وصار لديه طبيعيا أن يورط أم صديقه بالخيانة ويساومها على شرفها، وأن يتزوج ممن أحب ليذلها، أن لا يقبل بزوجة حامل من غيره ويكون كل هدفه تسجيل ابنها باسمه… هي تناقضات وصراعات داخلية لا يعرف القارئ أهي سبب أم نتيجة لغربة عمر؟
وأي غرابة وأي اغتراب يمكن أن يعيشهما شخص أقسى مما عاشه عمر الغريب… الغربة والاغتراب مرتبطان بالتمزق وبالمعاناة، وبالتباين الشاسع بين ما يغلي في عمق الذات وما يدور على أرض الواقع، فكانت معاناة عمر مزدوجة: غربةٌ خارجية تفقده كل روابط الانتماء للجماعة سواء كانت أسرة أو قبيلة أو مدرسة، أو مجتمع… واغترابٌ داخلي يضفي على الذات شعورا وبالانوميا فلا يرى في ذاته إلا شاذا خارجا عن العرف وعن المعروف المتعارف عليه، وإن كانت مثل هذه الأحاسيس تولد لدى الشخص في العادة إحساسا باللامعيارية والتفكير الدائم في حالته البئيسة وانفصالا الجذري عن كل ما يحيط به، وقد تؤدي به إلى الانسحاب أو الاعتزال أو الانتحار… فإن الكاتبة والساردَ اختارا للبطل مسارا مختلفا، فهما وإن ورّطاه في سلسلة من الخيبة والحرمان، وجعلاها ورقة وسط عاصفة هوجاء، يحرمانه من لذة الحياة، يحركانه كالدمية، وكقطعة شطرنج، يشددان عليه الخناق، ولما يفتحان له أملا يجد نفسه في وضعية أكثر غربة وأشد اغترابا… فإنهما مع ذلك جعلاها بطلا يكسب تعاطف القارئ الذي قد يجد مسوغات لكل أفعال وأقوال عمر، كما جعلاه بطلا متمردا ثائرا رافضا لا يستسلم ولا يهادن، وصاحب قرار في كل اللحظات الحرجة….
لم يزده فقره وحرمانهن وغياب النموذج والمقدس في حياته إلا شحذا لعزيمته، فجرد كل أسلحته للانتقام من هذا الواقع الغريب، ومن كل هؤلاء الغرباء الذين يحيطون به…
صحيح أن الغربة والاغتراب كانا يخنقانه، فهو غريب داخل الأسرة ( لا يعرف والده/ تنكرت له أمه/ ولا يعرف له أخا أو أختا…) وغريب جغرافيا ( لا يعرف بلدته، طردته المدينة وقست عليه البادية) كل الناس بالنسبة له غرباء ( لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد.. ( رُفعت عنه العناية وتولى أمر نفسه بنفسه ) … فتح عينيه غريبا في مدينة لفظته قطعةَ لحمٍ نيئة، طري العود أحوج ما يكون لحنان الأم والأسرة، وصار غريبا في البادية التي كانت مع الرواية الرومانسية المهرب والملجأ فصارت مع رواية (عمر الغريب) جحيما… وكلما احتضنه أحد أو أسرة شعر بالغربة أكثر، لا يشارك الأسر الحاضنة أفراحها، بل تتحول لحظات الفرح إلى تقريع وإحساس فضيع بالغربة كما حدث يوم ازدان فراش السي علي بمولود و سماعه النساء يرددن (إنه ليس ولدهم) (إنه غريب) وتصل القسوة حدا يتعذر فيع على الناس أن يخصوه بنظرة إشفاق… ينضاف إلى كل ذلك غربة في الحب، فبالإضافة إلى فقدان حب الأم وحنو الأب وحب السرة، فقد فشل في الظفر بحب من اختارها القلب حبيبة (ابنة المدير)، فما يعيشه من غربة وما يحسه من اغتراب جعله يراها نجمة بعيدة عنه يستحيل أن يصل إيها، فارتبط بفتاة لا يحبها عبوش. فتاة تثير اشمئزازه بكلامها بلباسها وحركاتها… ليغرق أكثر في غربة لم تزده إلا نقمة على الواقع واجتهاد في البحث عن طرق الانتقام…
إن الاغتراب ولّد لدى “عمر الغريب” شعورا بان كل الأشخاص وكل الأمكنة، ترفضه، وأنها لا تشاركه ولا يشاركها ما يختلج في دواخلك، ذلك أن الاغتراب على حد قول إريك فروم (تجربة يعيش فيها الشخص كغريب فلا يعيش لنفسه كمركز لعالمه وكخالق لأفعاله بل إن أفعاله تصبح سادته الذين يتحكمون في حياته) . وشعور البطل بأنه لقيط ابن زنا وولد الحرام وما يترتب عن ذلك من قيم جمعية متوارثة كرس في نفسه صورة شخص غير مرغوب فيه، وصورة شخص رمز للرذيلة والتلوث وغير ذلك من الأحكام النمطية الجاهزة… التي أحالته عاجزا عن إنتاج الفعل، وعلى القارئ أن ينظر لكل أفعال عمر على أنها ليس سوى درة فعل لإثبات الذات…
إن شعورا داخليا كهذا وتظاهرا بشخصية قوية همها إثبات حضورها ووجودها… كان ينبئ بسعي البطل إلى البحث عن خلاص وعن مخلِّص، وهو العارف أنه يسير نحو حتفه… وأن لا مفر له من الموت، وعندما لا يجد مفرا من الموت يصبح موته هو حياته، وموته إنقاذ من جحيم الحياة على الأقل لأن الموت أتاح له البوح بكل ما ظل يجثم على صدره… فكانت الرواية اعترافات ميت، واعترافات الميت تكون صادقة مادام ليس لديه ما يخسر، ولم تعد لديه أي فائدة في تزوير الحقائق التي تفنن في تزويرها في حياته، من خلال اختلاق حكايات وأحداث لإنقاذ نفسه كل ورطة دفعه إليها السارد.
طبيعي إذن أن يحس المرء بالغربة في الحياة لأسباب ذاتية أو موضوعية فوق طاقته، ولكن أن يحس الشخص بالغربة في الموت، وأن تمحي الحدود بين الموت والحياة وينتقل السارد بينهما بسلاسة فيرى نفسه ميتا، ويستمع لتحقيق الشرطة في موته فتلك مسألة أخرى، وينبغي أن يكون الشخص سلمى مختار حتى يتمكن من تجسيد الغربة في الموت وتجعل القارئ يحس تلك الغربة ويستشعرها في عمل روائي.
وإلى جانب هذه الغرابة في المتن المحكي، قد لا ينتبه بعض القراء لغرابة في زمن القصة، فتتبع زمن وحياة البطل يبين أنه لا زال حيا وأنه سيموت بعد صدور الرواية. فحسب مؤشرات زمنية نصية لنستنتج أن سنة وفاته لم تحن بعد: ذلك أن الرواية تقدم عمر طبيبا طبيب في منتصف العمر في الخمسينيات ص(14) وأنه من مواليد 1 أبريل 1981 وهذه الإشارة وحدها كافية لتحديد سنة وفاته بعد صدور الرواية. تبتدئ الرواية وقد وجد لمصلون في حقيبة عمر( في (صورة شمسية على ظهرها كتب اسمي وتاريخ ميلادي عمر الغريب 1 أبريل 1981). تخلت عنه أمه وعمره لم يتجاوز سبع سنوات (ص16)، التحق بالمدرسة وعمره عشر سنوات أي سنة (1991م) ص70 … من خلال نظام التعليم بالمغرب سيحصل على الباكالوريا 2003 … وسيتخرج طبيبا متخصصا سنة 2015 إذا لم يضيع أي سنة دراسية. ولنفرض جدلا أن أحلام اتصلت به باحثة عن حل لحملها في أول سنة بعد تخرجه طبيبا للنساء والتوليد وبعد أدائه للقسم بعدم إجراء عمليات إجهاض سنة 2015، فإن وفاته يفترض أن تكون سنة 2025 ما دام سن عمر “ابن” أحلام كان عشر سنوات عند وفاة عمر والرواية صدرت سنة 2022 وحسمت موت عمر… وتلك غرابة أخرى
في الختام أجد أن ما قاله جان جاك روسو عن الغريب لا يختلف كثيرا عما شخصته رواية عمر الغريب، فإذا كنا أبرزنا بعض مظاهر غربة واعتراب بطل الرواية فإن روسو يقول (كل ما هو خارج عني فهو غريب لم يبق لي في هذا العالم قريب، ولا نظراء، ولا إخوة أنا على هذه الأرض كما لو سقطت على سطح كوكب سيار غريب… وإذا كنت أعرف حولي بعض الأشياء فما هي إلا أمور محزنة لقلبي ممزقة له) تلك هي حياة عمر الغريب المأساوية التي توالت فيها الأزمات وحتى أن مرت فيها قيمة نبيلة شاردة فلن تكون إلا كصاحبة شرائح المشمش مجرد سراب، وأيام المشمش في الذاكرة الجمعية معدودة (سبعة أيام ديال المشماش سالت) … يقول عمر (كلما أوشكت على الإمساك بلحظات السعادة الخالصة إلا ووجدتني أرمي بنردها الزئبقي فوق طاولة اللعب ) 241 هو لعب سردي أحكمت سلمى مختار خيوطه عبر سارد يعرف أكثر مما تعرف الشخصية عنه نفسها، في رؤية سردية “من خلف” السارد فيها أكبر من الشخصية يعرف ماضيها وحاضرها ومستقبلها وما تفكر فيه، لكن القارئ يفاجأ بأن السارد هو الشخصية البطلة ذاتها وأنه راوٍ وموضوع رواية وهذه الحال تتطلب رؤية سردية مصاحبة “الرؤية مع” يستحسن أن يهيمن فيها السرد الذاتي وضمير المتكلم وتلك تلك غربة سردية أخرى
…. يتبع….