ما أضيق أفق العديد من الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، وهي تدعي الاهتمام بخدمة الوطن والمواطن، ولكنها كثيرا ما تتخلف عن مواكبتهما في كثير مما يحدث فيهما ويطرأ عليهما من الآفات الصعبة، كما نعيش اليوم مع تداعيات تدني القدرة الشرائية للمواطن والتهاب الأسعار، التي تصطلي بنيرانها المتقدة المحرقة مجمل الفئات الاجتماعية عبر ربوع كل الوطن، هذه الصحف والمواقع التي ترفض نشر أبسط مقال تتوصل به في الموضوع، وهي التي طالما اعتبرت نفسها منبر من لا منبر له و رفعت شعارها في صفحتها الأولى وبالبند العريض: “ما ينشر هنا لا يعبر إلا على رأي صاحبه”.. رأي صاحبه وليس ناشره؟.
إضرابات واحتجاجات.. وقفات ومسيرات.. تدوينات ومقاطعات.. تصريحات نارية على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو برحيل من كان السبب.. فوضى غير مسبوقة للنهب دون موجب شرع في بعض الأسواق.. توقف السيارات والشاحنات والحافلات.. كل هذا من التهاب الأسعار بشكل غير مسبوق في ظرفية من الصعوبة بمكان، ارتفاع في أثمنة المواد الغذائية الواسعة الاستعمال.. في المواد الاستهلاكية اليومية.. في المواد الطاقية وفواتيرها.. في النقل والخدمات.. الأدوية والتحليلات.. في العقار ومواد البناء… ارتفاع حتى في الضرائب والقروض والمديونية.. مع شيوع البطالة وفقدان الشغل وتجميد الأجور..، ولا حياة لمن تنادي؟.
الصحف والمواقع.. الأحزاب والنقابات.. النخب والمثقفين.. العلماء والخطباء.. الاقتصاديين والإعلاميين.. نواب الأمة والحكومة..، الكل سقط في لغو الروتين اليومي خارج الملف الحقيقي الذي هو هموم المواطن، وبالتبع سقطوا في مجرد مسؤولية تمثيل صوت المواطن.. فبالأحرى تبني مطالبه المشروعة والنضال من أجل التخفيف من معاناته مع معضلة الأسعار الملتهبة. ثم يتساءل الجميع لماذا يفقدون المصداقية ويفشلون في الوساطة بين الدولة والمجتمع؟. ويتساءلون لماذا الشعب ينظم حراكاته بكل عفوية ويقود معاركه بكل نضالية دون انتظار أحد؟. ألم يتساءل الملك قبل الجميع “أين الثروة ؟، لماذا لا تظهر في حياة المواطن؟، لماذا المغرب يسير بسرعتين”؟. فأين جواب كل من يدعي أن برنامجه هو الاشتغال الفعلي والفعال في هذا الأفق الوطني الملكي المجتمعي؟.
يدعي المدعون بعض التبريرات وهي منهم مرفوضة وعليهم مردودة.. وبعضها مغرض وملتبس وإن كان صحيحا، يقولون أن ارتفاع الأسعار عندنا مرتبط بالظرفية الدولية الصعبة وما طرأ فيها من الحرب الروسية الأوكرانية، فهل لم يكن هذا الارتفاع قبل هذه الحرب؟، وهل كان احتياطنا الوطني من كل المواد المرتفعة صفرا على صفر.. لا شهرا ولا حتى أسبوعا؟. كما يقولون أنه مرتبط بالجائحة الوبائية لكوفيد 19 ومخلفاتها على الاقتصاد الوطني، وإبان الجائحة رأى الجميع أن الدولة قد أبلت البلاء الحسن بما قدمته من مساعدات اجتماعية للمحتاجين، لكن، وكأن الحكومة بغلائها تسحب منهم باليسار ما أخذوه من الدولة باليمين؟. كما يقولون أن المسألة مرتبطة بالجفاف وكأنه طارئ على البلاد والعباد ولم يكن مزمنا في حياة الناس؟، أو كان احتياط سدودنا من المياه قد نفذ على آخر نقطة؟. ثم كيف نقدم على رفع الأسعار بارتفاعها في العالم ولا نقدم على نفس خدمات هذه الدول لمواطنيها، من دخل مرتفع.. من عمل متوفر.. من منحة البطالة.. من مساعدات اجتماعية مباشرة؟.
على أي، أسعارنا ملتهبة.. مستوى عيشنا مرتفع.. فوق القدرة الشرائية للمواطن.. لا يتناسب اضطرادا مع دخل الموظف حتى.. فما بالك بغيره من المياومين؟. السياسات العمومية بكل تأكيد مسؤولة على ذلك، ولكن بكل موضوعية أيضا، ليست لوحدها، بل كل الأطراف أيضا مسؤولة، ولا يمكن معالجة المعضلة إلا بهذه الشمولية وفي إطارها:
1- اعتماد سياسة إنتاجية وطنية بقدر حاجيات الوطن والمواطن.. فلاحية.. صيد بحري.. تشغيل.. مواد طاقية على امتداد كل صحارينا الشاسعة وغذائية على امتداد كل سهولنا الخصبة و واحاتنا المعطاءة.
2- حكامة في التدبير تمنع الاحتكار والسمسرة والريع وسوء التوزيع، بل والتلاعب بالأسعار بين جهة وأخرى وإقليم وآخر؟. كما أن هذه الحكامة ضرورية لتعزيز التعاون القومي والدولي، ولما لا تحويل أسواقنا إلى دولة كالسودان تعاونا واستثمارا وهو قادر على ضمان كل الغذاء العربي بدل الارتهان إلى أسواق أوروبا وأمريكا وهي أكثر كلفة؟.
3- تفعيل الدعم الاجتماعي للمعطلين والمحتاجين وعدم الجرأة على التقشف كلما تعلق الأمر بلقمة عيش المواطن المسكين على عكس غيرها من مشاريع الترف وتظاهرات التبذير، التي تجد لها دعما من صناديق لا يفتحها إلا هي؟
4- تفعيل حماية المستهلك بشكل حقيقي وممتد من مجرد الجمعيات المدنية بأدواتها المتواضعة إلى غيرها من الأحزاب والنقابات وكل من له علاقة بالمواد المستهلكة والخدمات العمومية؟.
5- دعم الاجتهاد التشريعي والحقوقي في اتجاه الترافع القوي لمعالجة ظواهر الفقر والهشاشة والعوز الاجتماعي بقوانين تشريعية وسياسات حكومية ناجعة على غرار غيرها من البرامج الاجتماعية ك”تيسير.. وأرامل..”.
6- احتياط المواطن لنفسه وهو المسؤول عنها قبل غيره، وذلك بضرورة ترشيد إنفاقه وتفاديه عادات الاستهلاك المفرط حد الاسراف ومجرد التباهي الاجتماعي، فمن اشترى ما لا يحتاج أتى عليه يوم يبيع فيه ما يحتاج؟.
7- تقوية الوازع الديني “ما منع قوم الزكاة.. ما أشاع قوم الفاحشة.. ما نقض قوم عهد الله.. ما نقص قوم المكيال..”، والاستثمار في قيم التضامن الاجتماعي والعائلي للمغاربة عبر الصدقات والزكوات وأداء الميسورين على المعسرين.
8- تدخل المجتمع المدني وتيسير ظروف اشتغاله بتنظيم قفة الحي.. وتفقد المحتاجين.. والوساطة للحالات الاجتماعية.. تطوعا عبر المساعدات والكفالات.. ورسميا عبر صناديق الأرامل والمطلقات..؟.
9- تأهيل الأسر المعوزة والحالات المحتاجة إلى الاندماج حتى ينتقلوا من مجرد متسولين متكلين إلى أفراد منتجين مكتفين، على قولهم : “لا تعطيني سمكة بل علمني كيف أصطادها”، وليكن ذلك بخطة استراتيجية تقدم الشباب.
10- الحاجة الماسة إلى الاستفادة من تجارب ومقاربات الدولة الاجتماعية عبر العالم، يبحث فيها المفكرون والعلماء ويعمل على أجرأتها الفاعلون من السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وغيرهم.
هذه بعض المقترحات، بطابعها الشمولي والتكاملي، باعتبار معضلة الغلاء تهم الجميع معاناة ومعالجة، ولكن لا شيء من كل ذلك كائن أو سيكون، ما لم يؤسس له بنظرة فكرية علمية عن معنى الدولة الاجتماعية وأية مقاربة لها أكثر واقعية، وأية ممارسة سياسية تناسبها وتكون أكثر مردودية وإقناعا؟. مسألة ثانية لا تقل أهمية وهي مدى اقتناع المسؤول والمواطن على أن المسؤولية المواطنة ليست شيكا على بياض، من أراد أن يرفع فيه الأسعار فليرفعها.. ومن أراد تجنب الاهتمام بها تجنب؟، إن المواطن مسؤول على الإصلاح وجزء منه وشريك فيه من أي مكان كان وبأي إمكان؟. تكرر بين القوم حديث السفينة، قوم أصابوا قيادتها ومسؤوليتها فأرادوا أن يرفعوا الأسعار.. وقوم أصابوا أعلاها ومقاعد راكبيها.. فإن هم منعوهم من الرفع نجوا ونجوا جميعا، وإن هم تركوهم يخرقون و”يخربقون” هلكوا وهلكوا جميعا؟.
مقال رأي : الحبيب عكي