لا أدري، مع رؤية الطفل “ريان” – رحمه الله – يتحرك بين الحياة والموت في قعر بئر معطلة غارقة ضيقة خانقة، لم يستطع كل العالمين إنقاذه منها حيا رغم ما بذلوه من مجهودات جبارة ورفعوه من دعوات صادقة وصلوات خاشعة، لا أدري، كيف تناهت إلى ذهني الكسيحة.. الجريحة.. الشريدة.. في تلك اللحظات الخاطفة، كل تلك الصور القاتمة التي قرأتها عن الآبار ومآسيها ومغانمها ومن بينها: “البئر الأولى”.. “البئر العجيبة”.. “البئر والأرانب”.. “أنا وأخي والبئر”.. “بائع البئر والقاضي”.. “بئر يوسف”.. “البئر القديم”.. “البئر الجديد”.. “بئر العفاريت”.. “بئر القطط”.. “بئر الحرمان”.. إلى “بئر العمر والأيام”.. إلى “ثعلب الصحراء وآبار النفط”..، وكلها حكايات تمكن أبطالها وضحاياها من الخروج من البئر الخانقة إلى حياة أفضل، ومنهم طبعا، من تعثر ولا زال يتعثر في ذلك، رغم كل الإمكانيات المسخرة والجهود المبذولة؟.
فحتى لا يتعثر خروجنا من البئر أحياء، هل نستمع إلى ثقافة الآبار، وهل نأخذ بشيء من حكمتها نستضيء به عتمة الحياة؟، فتحكي الأسطورة، أن أول بئر وجدت في الدنيا كانت لقوم خزن سلطانهم قطعة ثلج في الأرض تحسبا للجفاف أن يصيب مملكته، انصهرت القطعة وشربت الأرض مائها، أفاق القوم وخوفا من السلطان، أخذوا يحفرون عليها أكواما وأكواما من التراب، إلى أن فاض عليهم ماء الأعماق، فتوقفوا ظنا منهم أن قطعة الثلج قد أينعت (طاعة وعمل جماعي). ومقابل ذلك تحكي الحكاية أن أرانب كسالى كانت لهم بئر طالما أمرهم جدهم بالعناية بها وحفر مثلها حتى لا ينضب الماء عندهم فلم يبالوا إلا باللعب، ابتعد عنهم الجد وحفر بئره، أما البئر الأولى فقد تعطلت وشرد الجفاف الأرانب وهجرهم على وجوههم في الصحراء، لولا أن كلب الجد الوفي قد بحث عنهم وردهم إلى جدهم ينعمون ببعض ماء بئره الجديد (الكسل والعصيان)؟.
وحتى لا يتعثر خروجنا من البئر أحياء، هل ندري بواقع رجل تعليم لا حول له ولا قوة، طحنته القوانين والمذكرات، حتى أن حلمه طوال حياته كان – كما تحكي الحكايات – مجرد التمكن من الانتقال من مقر عمله في “البئر القديم”، وبعد طول انتظار وسنوات من العمل دون استفسار، كان كل ما تحقق له أنه تمكن من الانتقال إلى مقر عمل آخر في “البئر الجديد”، نعم، من “البئر القديم” إلى “البئر الجديد”، أمطري أو لا تمطري فكل خراجك إلي، وانتقلي أو لا تنتقلي فالبئر منتهى حدودك، روضتك وابتدائيتك أو إعداديتك وثانويتك، ومن يدري ربما يوما، كليتك وجامعتك؟. الاكتظاظ والفرنسة.. سؤال الجودة والحكامة.. معضلة الإصلاح.. وإصلاح الإصلاح.. آبار التعليم والصحة والنقل والسكن.. سحيقة ساحقة ماحقة، ترى، ونحن قد رفضنا بعض التأخر القهري في إنقاذ “ريان” وقلنا لم يكن في صالحه، هل كل هذا البطء والتبطيء في هذه المصالح الحيوية التي يصطدم بها المواطن كل يوم، ولعقود وعقود، هل هذا سيكون في صالح العباد والبلاد؟.
وحتى لا يتعثر خروجنا من البئر أحياء، فإن إخراج “ريان” كان لنا سيرة ونبراسا، اهتمام جماعي بكل الناس ولو في الهوامش، رصد كل الحالات الكبيرة والصغيرة بالكاميرا الرقمية وليس بأعوان السلطة، إزالة كل الحفر والآبار في حياة الناس وما أكثرها، تحرك وتلاحم الجميع من أجل ذلك سلطات وهيئات ومواطنين، كل من مكانه وبإمكانه، تضامن الجميع وطنيا ودوليا من أجل الجميع وليس من أجل فئات معينة فحسب، الوطن يسع الجميع ويحتاج إلى جهود ومبادرات الجميع، إحياء القيم الحضارية لهذا الوطن وامتداده الكوني العريق عبر الأمة العالمية، عمل جماعي جبار وفي حينه حرك الجبال من أجل مواطن، إطعام جماعي (التويزة) .. ترتيل آي القرآن الكريم ورفع الدعاء الخاشع بإيمان وتوكل لا تواكل.. التحميس بالنشيد الوطني.. ضغط إعلامي هادف بالإرسال الشامل المباشر ليل نهار من عين المكان..، هذه أسباب مادية للبشر كانت كفيلة بتحقيق المعجزات، ولكن، تبقى حكمة الله قائمة وإرادته سارية وهو الأعلى والأعلم والألطف في ما قدر وأنزل؟.
وحتى لا يتعثر خروجنا من البئر أحياء، هل نحن واعون بأنها آبار في حياتنا وليست بئرا واحدة، وبأنهم أطفال وأطفال وليس طفلا واحدا، ويظل الطفل “ريان” طبعا، سفير الطفولة في المشرق والمغرب بشكل عام، وسفير الطفولة المغربية والقروية منها بشكل خاص، لقد سموه “ريان” ليروي عطشهم وعطش الريف والوطن، وها هو قد قضى ولازال كثير من الوطن في عطش على عطش؟. أطفال الواحة والجبل بدون مستشفيات ولا طرقات..، يتفشى فيهم الهدر المدرسي لغياب وسائل النقل وقلة دور الإقامات..، تحاصرهم الثلوج في الأعالي بين قلة المؤونة وانعدام التدفئة..؟، لا ملاعب ولا مخيمات فبالأحرى دور الشباب والمراكز الثقافية؟، إن كنت تريد ملاقاة الأصدقاء فعبر الهاتف أو انتظر السوق الأسبوعي، وإن كنت تريد إنجاز الوثائق ففي السوق الأسبوعي، هذا السوق الذي يركب رأسه أحيانا فينقلب هكذا بدون مقدمات من المحلي إلى الجهوي والوطني، ومن الأسبوعي إلى السنوي وإن كانت فيه مواسم الزواج والطلاق؟.
وحتى لا يتعثر خروجنا من البئر أحياء، كم يلزمنا من الصدق والإرادة خاصة مع إمكانياتنا المتواضعة، وإن كانت متواضعة فهذا ليس عيبا، فنحن قادرون أن نحرك بها جبلا من أجل طفل، بل وحركناه. لكن كيف يجازى هذا الشعب الجبار عندما يطل عليه مسؤول يدعي حزنه على قضاء “ريان” وينسى أن بسياسته العرجاء يسقط كل الوطن في كل الآبار، وها هو المواطن متعبا مصدوما يستنكر دون جدوى: توقيف التنمية في جهة بأكملها.. العمل مقابل الجرعة.. والنقط مقابل الجنس.. و”التقاشير”.. و”الباصاصيص”.. و”الكراريط”.. و”الشكاليط”.. ودخان التهاب الأسعار.. و حكاية 17 مليار..؟. هذا النوع من المسؤول كيف يأمنه المواطن أن يكون هو القابض على حبله في “بئره العجيبة” المسكونة وهو في عمقها، حتى إذا صعد منها ما يطرده منها من “عفاريت” أو “تماسيح” وأطلق الناس من الحبل خوفا وهرعوا، أحكم هو الإمساك لأن الأمر يتعلق بأخيه المواطن.. وبوطن المواطن؟. بل ويا عجبا، ألم يصبح مثل هذا المسؤول صاحب البئر الذي باع بئره الغازي واشترط على الشاري المواطن ألا يسقي منه لا الماء ولا البنزين إلا مقابل الدفع والدفع غير المشروط كما أراد، بدعوى أنه باع البئر وحده ولم يبع ما بداخله، أي قاض سيحكم عليه بالعدول عن ذلك، أي قاضي القضاة سينصف منه ومن جشعه وتسلطه الوطن والمواطن، أبو “تقاشير”؟.
أيها الناس، لولا قصر النظر لأدركنا أن كلنا في بئر من الآبار، ولولا ذلك ما كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فلا يغرنكم بئر الحياة الدنيا وما فيه من اللهو واللعب والزينة والتفاخر بينكم والتكاثر في الأموال والأولاد، فإنه كمثل غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شديد، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”؟. ورحم الله صاحب “كليلة ودمنة” وهو يضرب للإنسان مثلا في بئر الحياة الدنيا “بئر الأيام والحرمان” فقال: “التمست للإنسان مثلا فإذا به كمثل رجل خاف من هائج إلى غصن تحته بئر عميقة وقعت بها رجلاه فأمسك بحبلها معلقا، نظر في عمقها فإذا بتنين له أربعة رؤوس ينتظر بفحيحه سقوطه، وفي الأعلى جرذان أبيض وأسود يقرظان باستمرار في الحبل، وهو في مأساته لم يلهيه إلا خلية وجدها بالقرب منه في جدار البئر وبها بقية عسل مهجور، يلحس منه بين الحين والحين إلى الحين؟، فأما البئر فالدنيا وآفاتها، وأما التنين برؤوسه الأربعة فالأخلاط الأربعة في جسد الإنسان، التراب والماء والنار والهواء أو السوداء والبلغم والدم والصفراء، إذا هاج بعضها على بعض كان فيه طبعه وحاله، حياته أو هلاكه، وأما الحبل فالعمر القصير لبني الإنسان، والجرذان الأبيض والأسود هما الليل والنهار يعملان فيه ولابد هما قارضاه ومفنياه يوما، والعسل قليل الحلاوة التي في الدنيا وتشغلنا عن شأننا وأمر مصيرنا في الآخرة”، فرحم الله من كان في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، ورحم الله من كان بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه؟.
الحبيب عكي