بين التجريب وتبئير المشروع في روايات شعيب حليفي
من “زمن الشاوية” حتى “لا تنس ما تقول”
الكبير الداديسي
بقدر سعادتنا بمثل هذه الملتقيات التي نجدد فيها الوصل بأصدقاء نعزهم ونحمل لهم في قلوبنا من الود ما لا تتسع له الصدور… نشعر ببعض الغبن عندما يطب منا الإيجاز في ما يستوجب الإطناب، ويفرض علينا تقديم أكلة سريعة خفيفة لضيوف استأنسوا المأدبات الثقافية الدسمة، لذلك نعتذر منذ البداية عن أي تقصير في تقديم قراءة سريعة حول مشروع ثقافي متكامل لمفكر مثقف نقابي كاتب يجمع بين الإبداع والنقد… ولج عالم الكتابة الروائية مطلع تسعينيات القرن الماضي بمساء الشوق 1992 لتتوالى تدفقه السردي عبر: زمن الشاوية 1994، وروايات أنا أيضا: تخمينات مهملة”، و”رائحة الجنة”، و”لا أحد يستطيع القفز فوق ظله” “مجازفات البزنطي” “أسفار لا تخشى الخيال” “تراب الوتد” “سطات” و “لا تنس ما تقول” ليكون من القلة القليلة في الرواية المغربية الذين استطاعوا خلق تراكم روائي يستحق أن يكون موضوع دراسة ، ويفرض أسئلة عن الثوابت والمتغيرات في مشروع شعيب حليفي؟ الموضوع الروائي؟ اللغة الروائية عند حليفي؟ الوعي والشخصيات؟ البناء الزمني؟ البناء الروائي؟ أساليب الحكي؟ الغاية من تورط حليفي في الكتابة الروائية؟ وخصوصيات الكتابة الروائية عند حليفي؟
صعب جدا الإحاطة بتفاصيل هذا المشروع في جلسة واحدة مهما خصص لها من الوقت، لذا كان التركيز على روايتين أولاهما تعد من اللبنات الأولى لهذا المشروع (زمن الشاوية 1994) والثانية رواية “لا تنس ما تقول” الحائزة على جائزة المغرب سنة2020)… الروايتان كتبتا في ظروف مختلفة، ولكل رواية ما يفردها وما تنماز به عن الأخرى على مستوى الشخصيات والأحداث والزمان طريقة الحكي… لكنهما تتشابهان في ملامستهما لقضايا كثيرة… لعل أهمها الانتصار للهوية الثقافية المحلية واختيار نفس الفضاء المكاني لمسرحة الأحداث وتحريك الشخصيات، والاستلهام من التاريخ والتراث الوطني والمحلي، كما تتشابه الروايتان وهذا هو الأهم في نفس البناء: الانطلاق من الشاوية إلى مدينة كبيرة مجاورة (هي في زمن الشاوية الدار البيضاء، وفي “لا تنس ما تقول” القلعة الكبرى والعاصمة) مع انفتاح الشخصية الرئيسة على الخارج (سفر علي الشاوي وابنه في “زمن الشاوية” إلى باريس بفرنسا، وسفر شمس الدين الغنامي في رواية “لا تنس ما تقول” إلى طليطلة بإسبانيا) والعودة إلى الشاوية بهدف تغيير الواقع مع الإيمان بصعوبة هذا التغيير أمام مادية العصر واستفحال الفقر، الجهل، الشعوذة وصعوبة مواجهة المخزن المتحكم في كل صغيرة وكبيرة لتبقى الكتابة متنفسا تستدرج كل شخصية لكتابة روايتها الخاصة، وإظهار من يتقن العزف على الحروف كمن يملك المفتاح السحري لهذا الواقع الملتبس… الروايتان تلتقيان في ال “هنا” (الشاوية) الممتدة جغرافيا من نهر أبي رقراق شمالا إلى نهر أم الربيع جنوبا… وهما قطبا رحى المشروع الروائي لشعيب حليفي…
ونظرا لتعدد الجوانب التي يمكن من خلالها مقاربة العملين سنستلهم أول جملة (عنوان) افتتح به حليفي روايته الأولى “زمن الشاوية” ( الرحلة: عشر نقط لفهم ما جرى) لنأخذكم في رحلة مكثفة عبر عشر نقط في شكل ثنائيات تختزل أسئلة الرواية في مشروع حليفي:
1 – سؤال التجريب والبحث عن الشكل المناسب:
قارئ الروايتين يدرك اعتماد شعيب حليفي على التجريب في الكتابة الروائية كرؤية فنية جديدة للأشياء وللعالم، من خلال البحث عن الشكل المناسب، لقناعة الروائي أن إشكالية الرواية المعاصرة اليوم هي إشكالية شكل أكثر مما هي إشكالية محتوى، وأن الإشكالية الكبرى لا تكمن في ماذا نسرد؟ وإنما كيف نسرد وبأي لغة وبأي طريقة؟ ما دامت “المعاني مطروحة في الطريق” لذلك تلتقي “زمن الشاوية” و”لا تنس ما تقول” في تجريب طريقة جديدة في بناء الرواية تخلق لدى المتلقي شعورا بالارتباك، تجعل القارئ البسيط المتعود على الكتابة الكلاسيكية يجد صعوبة في تتبع الخيط الناظم (fil conducteur) بين مكونات المحكي…
وهذه الطريقة الجديدة تبعد الرواية عن مجرد سرد أحداث تخييلية من الذاكرة، إلى إجبار الروائي على البحث المضني عن الشكل المناسب والمحتوى المقنع المشوق، من خلال النبش في التاريخ والفكر، الجغرافيا الأنتروبولوجيا… وهو ما يحيل الروائي إلى ما يشبه المفكر المؤرخ السياسي والمصلح… وتستدرج القارئ هو الآخر للبحث، فلا يمكن لقارئ (لا تنس ما تقول) مثلا أن تحيط بموضوع الرواية ما لم يكلف نفسه عناء البحث عمن يكون بويا صالح هذا؟ والغوص في المعرفة التاريخية لفهم عقيدة البورغواطيين والربط بين هوية البطل (شمس الغنامي) و(صالح بن طريف) البرغواطي…
2 – الاستلهام من التاريخ وأسطرة الزمن:
الروايتان تستلهمان من التاريخ وتعملان على تحيين التاريخ وتغليفه بعديد القضايا الآنية، وترميان بالقارئ في أتون أزمنة ماضية من تاريخ المغرب: فإذا كانت “زمن الشاوية” تعود بالقارئ إلى النصف الثاني من القرن 18 وبالضبط مرحلة حكم السلطان محمد بن عبد الله، وبداية ما يعرف في تاريخ المغرب بالسيبة مع الانفتاح على الثورة الفرنسية… فإن رواية “لا تنس ما تقول” تتوغل في التاريخ أكثر لتُلقي بالمتلقي في العصر الوسيط زمن البورغواطيين وشخصية صالح بن طريف (بويا صالح) الروايتان وإن كانتا تستلهمان من التاريخ فهما لا تندرجان في الرواية التاريخية بمعناها المدرسي وإن كانتا تغترفان من التاريخ، ولا تروم إعادة كتابة التاريخ، وإنما تستحضر التاريخ وتنبش في ثناياه مستحضرة شخصيات، رموزا، تجارب انتصارات وانكسارات أحداث وقضايا لم ينصفها التاريخ والمؤرخون، أمام هيمنة قراءة رسمية همهما طمس جوانب من الهوية الثقافية لهذا الحيز الجغرافي/الوطن، وهذا الوجدان المشترك/الأمة …
لم تكتف الروايتان بالنبش في الزمن التاريخي والعودة لمحطات من زمن الشاوية، بل حضر فيهما مفهوم الزمن بقوة، وجعلتاه قوة فاعلة محركة للأحداث وتجاوزتا أنسنة الزمن وإسناد أفعال إنسانية إليه، إلى أسطرة هذا الزمن وجعله قادرا على فعل ما عجزت باقي القوى الفاعلة في الروايتين فعله… بل جعلتا الزمن شكلا يتسع لكل المعاني السالبة والموجبة والمطلقة التي يستحيل الإحاطة بها كلها في مقال قصير ومنها ويكفي تأمل هذه الأمثلة القليلة ليستوعب القارئ هلامية ومطاطية الزمن:
(زمن الشاوية هو زمن الموت والقتل والفوضى)
• (زمن الشاوية الملتهب الحارق العلقم بمرارة الشيح والشندكورة والمريوت…. زمن
• الشاوية هو زمن العزلة والمنافي المربوطة بسلاسل الضيم والمفاجأة
• زمن الشاوية يلتهب وقفاطينه تحترق ص 150
• زمن الشاوية مثل حطبها القطاطعية يتصيدون في الماء العكر. ص28
• زمن الشاوية المتقلب بطواحينه المفضوحة والمستترة..
زمن قد يضيق على صاحبه وقد يمتد به لكل مالا تستطيع أن تلملمه الذاكرة من حكايات، فيصبح (من حق كل شاوي أن يحلم في زمن الشاوية بما يشاء)32 كما قد يصبح خصوصيا حميميا (زمن الشاوية جزء من حسابات الكاشوش التي يحتفظ بها كل واحد لنفسه في ساعات العبت)، وفي نفس الوقت يعدو عاما مطلقا… ورغم تقلبات وزئبقية زمن الشاوية فإنه يبقى هو هو مهما حاول الماكرون (كما الشيح الهبطي) البحث (عن سبل للالتفاف على زمن الشاوية)ص48… يأتي الأولياء كسيدي حجاج وابن حمد ويغادرون (دون أن يغيروا شيئا من زمن الشاوية) ص 60 كرمه بدون حدود وذنوبه لا تغتفر فلا يملك سارد الرواية سوى أن يصيح:(سامحني يا ربي فإني لن أسامح زمن الشاوية ) ص 90 أنه زمن يجمع كل المتناقضات، معشوق ومكروه قد يختزل كل الناس، كما قد يُختزل في شخص واحد، قال الشاعر الهداوي في القايد علي:
تقدم أيها الشاوي واضرب ++++ بزمنك الزمن يكن زمن الشاوية
لذلك لا غرابة إن صار أقصى ما يتمناه السارد حرق هذا الزمن لإيقافه عند لحظة تختزل كل الأزمة: (تمنيت لو أني عشت حطابا، حتى أجمع ما أحرق به هذه الشاوية فانهي التاريخ عند مقتل الشهيد القايد علي الشاوي) وهو المقتنع أن الناس يعيشون ويقتاتون على (حكايات زمن الشاوية)53
3 – تشظي الحكاية وتشتيت المحكي:
قارئ الروايتين يدرك الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في حياكة وتطريز حواف حكايته ليجعل الرواية وحدة دالة لها وظيفة معينة، لكن سرعان ما يخيب أفق انتظاره أمام تعدد وسرعة الانتقالات بين الأمكنة والأزمة، تشظي الحكاية وتفتيت وتشتيت المحكي عن قصد، والرهان على ذكاء القارئ في إعادة هيكلة معمارية الحكاية وترتيب وقائعها، تنويع الحكايات وطريقة الحكي، باعتماد التضمين (حكاية وسط حكاية) وإتقان لعبتي التصريح والتلميح في إعلان الكاتب/ السارد لموقف من عديد القضايا الراهنة والموروثة كاختيار سردي ينشد تشييد عوالم سردية مختلفة، ليخرج حليفي في هاتين الروايتين بهذه الفوضى الخلاقة همها صناعة تاريخ من خلال السرد، دون الادعاء النيابة عن المؤرخ في كتابة التاريخ…
ومن مظاهر هذا التشظي تبويب الروايتين في عناوين فرعية، فهما تنطلقان معا من رغبة في تغيير الأجواء فكان أول عنوان في “زمن الشاوية” هو ( الرحلة أو عشر نقط لفهم ما جرى) وكان أول عنوان في رواية “لا تنس ما تقول” هو (يصعد الموج إلى السماء) وأن هذا التفتيت المقصود نما وتطور بتطور مشروع حليفي وإذا كانت الرواية الأولى متضمنة لخمسة فصول في كل فصل عدد من المشاهد تختلف بين الترقيم والعنونة، فإن رواية زمن الشاوية …. وفي الروايتين يكاد يفتح كل عنوان متاهة سردية أمام القارئ يعتقد أنها سنتفرد بشخصية أو بمكان أو حكاية فرعية فإذا به يتيه في سراديب ذلك التبويب ليجد نفسه متورطا في إعادة حياكة الحكاية والتعامل معها كوحدة وتلك هي الغاية التي يرنو إليها الكاتب في توريط القارئ في إعادة البناء السردي…
5 – تعدد الأصوات ومغربة الرواية
بالإضافة إلى تشتيت المحكي وانتقال السرد من حكاية لأخرى، ومن شخصية لأخرى ومن مكان لآخر ومن زمان لآخر، فإن الروايتين كتبتا بطريقة اجتهد فيها شعيب حليفي لتكون تجريبية تعمد فيها السرد التناوبي، فكان السرد في “لا تنس ما تقول” بين سعيد، شمس الدين، صلاح وجعفر وأصدقاءهم ناهيك عن السارد الأكبر الذي يتحكم في كل خيوط اللعبة السردية يبعد من يشاء ويقتل من يشاء… متجاوزة التقسيم النمطي للرؤية السردية، وعلاقة السارد بالشخصيات، صحيح أن السارد يمنح الحرية للشخصيات كي تعبر عن مواقفها ورؤيتها… لكنه في ذات الوقت متحكم في كل كبيرة صغيرة يصف ويسرد كل ما تفعله الشخصيات وما تفكر فيه في خلوتها ونومها وحلمها… يعرف ماضيها ومستقبلها، يحركها كالدمى، لتقف الرواية في مشروع شعيب حليفي عصية على كل الضوابط التي ينظر لها شعيب حليفي الناقد، وهو ما يجعل صوت شعيب الناقد غيره صوت شعيب المبدع…
إن تعدد الأصوات صاحبه تعدد في ضروب الوعي وتعدد الثقافات، والمبالغة في توظيف المحلي الذي قد لا يفهمه إلا المغاربة وأحيانا إلا أهل الشاوية، وظف السارد كل ذلك لتوهيم القارئ بواقعية الأحداث، وقد تعمد إيراد مقاطع سردية باللغة العامية وتعريبها أحيانا، وفق مقصدية السارد الأكبر مما يجعل من الروايتين كتابة مغربية بامتياز، وكأن هدف حليفي مغربة اللغة العربية، من خلال تعريب الدراجة المغربية، وتدريج العربية الفصحى، فيأخذ مثلا أمثال عربية مثل (عادت حليمة إلى عادتها القديم) ليمغربها ويصبح المثل (عادت ريمة لعادتها الديمة) مغربيا له حكاية مرتبطة بالشاوية وأهلها … كما تحكي رواية حليفي حكايات شعبية من المغرب العميق مشحونة بدلات شعبية كحكاية الغولة التي ترمي بثدييها المرتخيين على كتفيها ص29. أو بدلالات دينية مثل كرامات بعض الأولياء كقدرة بعضهم على جمع لحم الذبيحة وإعادتها للحياة بعد توزيع لحمها… وكرامة ذلك لولي القادر على جعل الرحى تدور وتطحن الزرع، ووضع القدور ملأى بالطعام على النار، وإشعال النار بنفس الأيادي اللا مرئية … وولي آخر بإمكانه تفجير العيون والمنابع…) وتبقى المغربة أكثر وضوحا في الجانب اللغوي بتوظيف معجم مغربي من قبيل: الرزاز، الزميتة، السيبة، القطاطعية، العزارا، الزطاطة، التزطيط، السبسي… بعض الأماكن ناهيك عن بعض العادات، التقاليد، الأمكنة والألبسة المغربية يقول في وصف حصّاد: (يلبس الصباعات القصبية ويلبس التبندا …) 33 وهي أوصاف لن يفهمها إلا من عاش في البادية المغربية وعرف عن قرب طقوس الحصاد والدرس…
6- التمرد على النمط الكلاسيكي والانتصار للتصور الحداثي في البناء،
إذا كانت الرواية الكلاسيكية كأدب نخبوي (كلاسيكية من essalc وتعني طبقة أو نحبة) تقوم على مخاطبة النخبة المثقفة من خلال العناية بالأسلوب. الحرص على فصاحة، متانة اللغة، وأناقة العبارة. التعبير عن العواطف الإنسانيّة العامة. توظيف الأدب لخدمة الأغراض التعليميّة، واحترام التقاليد الاجتماعيّة. وقيام الرواية على مفهوم البطولة، فتجعل الأحداث تتمركز حول شخصية رئيسة تسعى لتحقيق هدفها، تربطها علاقات سالبة أو موجبة مع شخصيات أخرى لا تتحرك إلا في دور ثانوي خدمة لفكرة أو معارضة فكرة البطل…. فإن مشروع شعيب حليفي في روايتيه (زمن الشاوية، ولا تنسى ما تقول) يركز على تقريب الرواية من الهم اليومي، وربط ال هذا اليومي بالتاريخ، معلنا مقتل مفهوم البطل باختيار شخصيات كثيرة تتناوب على السرد، بطريقة تجريبية تسعى إلى فهم كيفية عمل الوعي الإنساني اليومي ومنه فهو لا يقدم نفسه كحامل معرفة، وإنما مجرد صاحب رؤية للعالم، مقتنعا حتى الثمالة بكون الكتابة مجرد مغامرة لاكتشاف هذا العالم، وتورط في محاولة فهم الذات أولا قبل فهم العالم، ومتمردا على الثوابت المتعارف عليها في السرد وفي بناء الرواية، ككاتب حداثي من حقه مساءلة السائد، والتساؤل عن الممكن.
7 – الانتصار للتاريخ المهمل
إذا كان الحاضر هو ما يحدد الموقف من الماضي، فإن شعيب حليفي كمثقف ملتزم، ونقابي وسياسي قادم من منطقة يراها ضحية التهميش … فمن الطبعي أن ينتصر مشروع شعيب حليفي الروائي للتاريخ المهمل، وتاريخ الهامش، مقابل التاريخ الرسمي وتاريخ المركز الذي يرعاه التحالف الطبقي المسيطر ويسخر له مؤسسات تشرعنه، لذلك ركزت الروايتان على التاريخ الشعبي، والتأريخ من خلال الرواية لمنطقة الشاوية التي ظل للأسف تاريخها شفويا، فجاءت رواية “زمن الشاوية” و” لاتنس ما تقول” لفتح هذه الكوة في مشروع تنويري، يستهدف عولمة القضايا البسيطة، وجعل التاريخ المحلي قضية إنسانية، وحليفي في كل ذلك مؤمن بأن كتابة الروائية لا يمكن أن تعوض وظيفة المؤرخ، وإن كان الروائي يتجاوز المؤرخ بتجاوز الاقتصار عما صار، إلى الحديث عن المحتمل وكما يجب أن يصير… لأن المؤرخ الرسمي يبني مشروعه على الانتقائية وتتحكم في اختياراته اختيار زاوية معينة للتأريخ تتناسب والتوجه الرسمي… في حين استحالت الرواية كاميرا تجوب الشوارع وتلتقط ذبذبات الناس في عفويتهم وإن كان الروائي هو الآخر ينظر من زاوية معينة وتتحكم فيه الثقافة التي أنتجته والإيديولوجية التي تأثر بها خاصة عندما يكون الروائي نقابي ويحسب على توجه سياسي معين له مواقف مررها عبر شحوص الرواية من المخزن وهياكله من المقدم ، الشيخ، القايد …) ونظال أهل الشاوية ضد ضغيان وجبروت المخزن
8 – المزج بين الفصحى والعامية في توق للمغايرة
وبحث عن لغة ثالثة تظيف للمعجم لمسة خاصة وتشيكلا جديدا قادرا على نقل الأحاسيس بعفوية، فيكون التأثير والوقع قويا على القارئ الذي يفهم معاني تلك الوحدات المعجمية، رغم ما قد تطرحه من صعوبة الفهم لدى القارئ العربي الذي قد يجد صعوبة في فهم بعص كلمات المعجم الدارج المتعلق ببعض المواسم أو الحرف ( التباندا)
تجنب استعمال لغة الآخر فرغم أن بطل زمن الشاوي زار فرنسا وبطل (لانس ما تقول) زار اسبانيا طبقات راقية واشتغل مترجما لعدة لغات …. لم تنفلت إلى النصين أي كلمة من هاتين اللغتين…
ماذا أكتب ولمن أكتب في الرواية؟ في رواية أنا أيضا .. تخمينات مهملة) (وسأكشف أنك لم تكتب عني وإنما عن نفسك.) يجيبه ( اكتب عنك لأهرب من ذاتي ومن السأم والضجر)
تنويع طرائق التعبير وتعدد الرواة
اشراك القارئ وإيهامه أنه جزء من هذه الهوية الثقافية المراد بناؤها والتي تدعو الرواية إلى بعثها والحفاظ عليها
9 – توظيف التراث واستغلال الموروث: بطريقة تبرز استيعاب حليفي للتراث المغربي وتراث الشاوية خاصة، بطريقة لا تقوم على اجترار واستنساخ المتداول من الموروث، بل ليضع الحاضر من خلاله موضع مساءلة، واستثمار وما تتيحه نصوصه من إمكانات لتوليد أشكال جديدة ، وقضايا نابضة لها علاقة بالواقع الحافل بالتطورات والمتغيرات حتى يستجيب لروح العصر، وذلك من خلال استحضار النص التراثي السردي الشفهي وآليات تناصه في قوالب فنية جديدة تربط الماضي بالحاضر، لتؤسس لنفسها تجربة متفردة تنبني على التأصيل والتجريب
10 الرمزية والعجائبية:
تميزت روايتا “زمن الشاوية” و “لا تنس ما تقول” باعتماد الرمز طريقة في التشكيل وفي بناء المعنى عبر استدعاء أعلام أماكن أو قصص للتعبير عن موقف ذلتي أو جماعي، في سعي للفكاك من المباشرة والتقريرية، وخلق توتر فني للقارئ من خلال حالة لفهم علاقة الإنسان بذاته، بتاريخه، بوطنه ووجوده… والتفوق على المؤرخ في نقل ما يجري بخلق عالم متخيل متعدد الأبعاد يغدو فيه الرمز قناعا وسيرة درامية، مما يجعل من الرواية وليدة نصوص قديمة لكنها منفصلة عنها، بفعل تشذيب الروائي للرمز ، هكذا مثلا أضحى بويا صالح رمزا في رواية (لا تنس ما تقول)
أما العجائبية فتتجلى في الكثير من الحكايات الشعبية (حكاية ريمة) ومن خلال كرامات الأولياء فنجد علي الشاوي السارح يتجنه المطر والطوفان، ومولاي علي بوعزة قادر على إحياء الموتى وجمع لحم الذبيحة لتغدو ماشية كما لو أنها لم تذبح، ويكفي أن تصيح فاطمة منادية على أحد الأولياء فينكم أالشراف حتى بدأت الرحى تدور وتطحن الزرع، والقدور الينية على نار أشعلتها نفس الأيدي اللامرئية… ويفيض نبع العين…) والروايتان مليئتان بمثل هذه الأحداث التي لا يصدقها عقل، وتحوم بالقارئ في عوالم غرائبية وما فوق الطبيعي، بطريقة يمتزج فيها الواقع بتخوم الخيال،
ما يشبه التركيب:
يستنتج إذن من خلال الروايتين أن مشروع شعيب حليفي يقوم على وحدة المكان والموضوع والمنظور، وإذا كانت العادة أن يسكن الإنسان مكانا أو أمكنة، فمن خلال الروايتين يبدو حليفي هو المسكون بالمكان، إذا جعل كل مظاهر التجريب في خدمة مشروعه الروائي، واتخاذ التجريب لتجليات وتمظهرات تمتح من التراث المحلي لتقدم للقارئ كتابة سردية تخييلية حافلة بالحركة والحوار والسخرية والنقد دون أن تتنصل رواياته من معانقة اليومي، أو تتملص من التشخيص الوصفي لواقع يزداد زئبقية منفتحة على ما هو حداثي، وهي تستهدف خلخلة بعض الثوابت في الرواية العربية التقليدية، وتحاول الانفلات من أي ضوابط قد تكبلها، وتقزم دورها وحركيتها، عسى تفرض نفسها في دائرة التلقي الأدبي بخصوصيتها وشكلها الجديد، وصياغة أسئلتها وإشكالاتها الخاصة بها بعيدا عن كل استنساخ واجترار. جاعلة من الزمن موضوعا روائيا ووسيلة للحكي من خلال العزف على تقنيات الزمن السردي من استرجاع، وقف، مشهد قطع … بطريقة تؤسطر الزمن وتجعله قوة فاعلة في الرواية… وجعل الرواية ملتقى كل الفنون شعر، أغنية شعبية، مسرح، حكاية، تاريخ ، جغرافيا أنتروبجيا… ذلك أن (عقل صاحب التجريب يجب أن يكون فعالا أعني انه ينبغي أن يستوجب الطبيعة ويوجه إليها الأسئلة في كل اتجاه) كلود بيرنار، وبذلك يكون حليفي قد تجاوز مرحلة التجريب بحثا عن الشكل المناسب إلى اعتماد التجريب تقنية جديدة في الكتابة الروائية، جاعلا من رواياته كما قال باختين (مغامرة دائمة تبحث فيها الكتابة وقد تحررت من قواعد الشكل ومن قيود المضمون عن عوالم جديدة وأشكال جديدة.) . كل همه إصلاح حال الشاوية / الصالحية بالنهل من الحكايات الشعبية واستلهام التاريخ، والاستنجاد بالمتخيل دون أن يتخلص من السيري الذاتي الذي يبقى حاضرا بقوة، فيشم القارئ الكثير من شعيب حليفي مبطنا في الروايتين ويتم تمريره عبر شخصيات معينة…
ما يميز كتابات حليفي كونها تترك أثر لها في المتلقي ــــ ولا تمر من كما تمر السفينة تُحْدِث رجة في مياه البحر وينمحي أثرها سريعا بمجرد مروهاــــــ لأنها تحمل القارئ إلى عوالم وفضاءات لم يسبق للرواية أن ولجتها، تعتمد الحلم والعجائبي والتراث، وتنفتح على آفاق تجريبية أوسع وأرحب لفهم الواقع والحياة اليومية بتناقضاتها… ولإدراك الذات من جهة أخرى متجاوزة اجترار وتكرار النموذج الكلاسيكي مبنى ومحتوى…