كلمة السيد محمد عبد النباوي الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في الندوة الوطنية حول موضوع : “مدونة الأخلاقيات القضائية. محطة هامة في تأطير السلوك القضائي”.
-الرباط 24-25 يونيو 2021
باسم الله الرحمان الرحيم
قال تعالى : “وإنك لعلى خلق عظيم” (القلم 4)
وقال رسول الله (ص ): “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”
حضرات السيدات والسادة؛
لا يخفى عليكم الاهتمام المولوي المستمر بإصلاح القضاء وتثبيت استقلاله، ودعم نزاهة واستقامة أعضائه. وفي هذا الصدد قال جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2013 للشعب المغربي : “ما فتئنا منذ تولينا أمانة قيادتك، نضع إصلاح القضاء وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب اهتماماتنا، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم، وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة كمحفز على التنمية والاستثمار”.
وإدراكاً من جلالة الملك لأهمية تخليق القضاء، وجه جلالته المجلس الأعلى للقضاء السابق في افتتاح دورته يوم
12 أبريل 2004 بالقول السديد : “إن التقدير الكبير والرعاية السامية والموصولة التي تحظى بها أسرة القضاء لدى جلالتنا، وإيثار العفو والتسامح فيما يقع فيه البعض من هفوات أو أخطاء ممن أراد الحق فأخطأ سبيله، لا يعادله إلاَّ دعوتنا المجلس إلى الحزم والصرامة في التصدي لكل إخلال بضوابط وأخلاقيات عضوية المجلس الأعلى للقضاء وأسرته في التزام بالقانون وحرص على حرمة القضاء وحصانته”.
أيتها السيدات والسادة؛
إن افتتاح هذه الندوة الأولى التي تعقدها مؤسسات السلطة القضائية بشأن مدونة الأخلاقيات القضائية بهذه الدرَر الملكية السامية، هو تعبير منَّا عن الانخراط في مخطط إصلاح القضاء الذي يقوده جلالة الملك منذ توليه أمانة قيادة بلدنا العزيز. وإن هذه الكلمات السامية تختزل مبررات إصلاح القضاء وتخليقه، باعتباره أداة ضرورية لتنمية الوطن. وباعتبار تخليق المهنة واجباً على الدولة وعلى القضاة أنفسهم. وأنه ليس غاية في حد ذاته. ولكنه وسيلة من الوسائل بين يدي الوطن ليرتقي إلى مصاف الأمم المتقدمة. ولذلك فإن عقد هذه الندوة بمناسبة صدور مدونة الأخلاقيات القضائية، هو حلقة إضافية لسلسلة تخليق الحياة العامة ببلادنا، ومهنة القضاء بصفة خاصة.
وإنني إذ أتقدم بالشكر الجزيل إلى جميع المشاركين في هذه الندوة، ولكل من ساهموا في عقدها، لأجدد الشكر للحضور الكريم، سواء من يحضرون معنا في هذه القاعة، أو من يتابعون اللقاء عن بعد، مؤكداً لهم أن تخليق القضاء، كما هو الشأن بالنسبة لموضوع إصلاحه، هو مهمة جميع المغاربة، كل من موقعه وبوسائله المشروعة. ولكنه يظل محوراً أساسياً من انشغالات الدولة ممثلة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يرأسه جلالة الملك، والقضاة الذين ينتمون لمهنة لا يستقيم دورها بدون أخلاق ومبادئ.
حضرات السيدات والسادة؛
إن “الأخلاق” هي منظومة القيم الفضلى التي تمثل أسمى صور الوعي البشري، وتعبر عن تمسك الإنسان بمبادئ الخير والصلاح ونبذ نوازع الشر والأذى. وهي بذلك مرجعية ثقافية للبشرية تستهدف استنهاض السجايا الحسنة والطباع الفضلى من باطن الإنسان، وجعلها مركزاً لسلوكه الظاهر في المجتمع. لتطبيق قيم فضلى كالعدل والمساواة والسلام وكلِّ أعمال الخير. حتى إِنَّ أرسطو أسس كتابه “الأخلاق النيقوماخية” الذي أهداه لأبنه “نيقوماخس” (349 ق.م) على فكرة تَعْتَبِرُ “أن كل فن، وكل فحص، وكذلك كل فعل واستقصاء لا يقصد به أن يستهدف خيراً ما، ولهذا السبب فقد قيل بحق، إن الخير هو ما يهدف إليه الجميع”.
ولذلك سعت المجتمعات القديمة إلى التمسك بالأخلاق والتحسيس بأهميتها، وفرض تطبيقها بعدة وسائل، كالقانون والدين ..، كما أخبرنا التاريخ عن ذلك في الحضارات الفرعونية واليونانية والفارسية، التي خلقت آلهة للخير وآلهة للشر لتثبيت فكرة الأخلاق في المجتمع.
والواقع أن المجتمعات تحتاج إلى أكثر من نمط لضبط سلوكياتها، أهمها الضوابط القانونية المستندة لجزاءات قانونية في شكل عقاب تتولاه الدولة، والضوابط الدينية المستندة لجزاءات عقائدية مبعثها الإيمان، والضوابط الأخلاقية المستندة لجزاءات الضمير والحس السليم لدى الإنسان.
ولئن كان تنفيذ الالتزامات القانونية يستند إلى الجزاءات التي يحددها القانون وينطق بها القضاء، فإن الالتزامات الأخلاقية لا تسندها دائما جزاءات قانونية، ذلك أن احترامها مُنَاطٌ بضمير الفرد وحِسِّه السليم. فهي مجرد قرار عقلاني يتبنى سلوكات نموذجية ومثالية. ولذلك فإن احترامها قد يكون موضوع صراع دَاخلي تضطرم به نفسية الإنسان، ويتطلب منه التغلب على النوازع الداخلية الرافضة لها، إذ في العادة لا توجد كوابح خارجية تحمي المبادئ الأخلاقية.
وإذا كان القول المأثور عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان “أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن سلطة العقاب الدنيوي العاجل تكون أكثر ردعاً لمن يكون إيمانهم ضعيفاً. فإن القدرة الردعية للأخلاقيات نفسها تحتاج إلى صحوة الضمير وقوة الوازع الخلقي. وإذا كانت صحوة الضمير ترتبط بتربية الإنسان المعني نفسه، ومدى تَقَيِّدِه بالواجبات الأخلاقية واحترامه لها، فإن قوة الوازع الخُلُقي تتغدى من منبعين اثنين : منبعٌ داخلي يعود لدرجةِ تَشَبُّعِ الإنسانِ باحترام الأخلاقيات والتزامه بها. ومنبع خارجي يرتبط بالجزاءات الاجتماعية التي تترتب على خرق الواجبات الأخلاقية، وقد كانت في المجتمعات السابقة تتجلى في نبذ المستهتر بالأخلاق ورفض التعامل معه. وهو ما كان يشكل جزاء قاسياً، وبالتالي يُعَدُّ صِنْفاً شديداً من الردع العام. ولذلك فإن المهن المحترمة كانت تتشدد في معاملة الإخلال بقواعد السلوك والأخلاقيات المهنية المفروضة على أعضائها، لدرجة طرد المخالفين من صفوفها ومنعهم من الانتماء إليها، لأنها تَعْتَبِرُ القواعد الأخلاقية أساسية لاستمرارها، وضرورية للحفاظ على سمعتها وكرامتها. كما أنها تعتبر أن السمعة العامة للمهنة تتضرر بالإخلالات الفردية للقواعد الأخلاقية.
ومن جهة ثانية يلاحظ أن القواعد الأخلاقية وإن كانت سمة عامة لمختلف المجتمعات، رغم اختلافها بين مجتمع وآخر، فإن ازدهارها وتطورها وتنظيمها ارتبط بالمهن الأكثر شرفاً كالطب والقضاء والمحاماة والصحافة مثلاً، باعتبارها مهناً فكرية يمارسها المثقفون والمفكرون، الذين يكون الوازع الخلقي طاغياً على الصورة العامة لمهنتهم، باعتبارها مهنة شرف ووقار، تتطلب توفر شروط معينة لاحترامها وتقديرها. ولذلك فإن قسم أبو قراط الذي اعتُمِد في القرن الرابع قبل الميلاد، هو عبارة عن التزام أخلاقي يتعلق بمهنة الطب. بل إنه كان هو منطلق القواعد الأخلاقية لهذه المهنة.
والواقع أن الكثير من المهن قد طورت قواعد أخلاقية خاصة بها اعتماداً على أعراف المهنة نفسها وشروط ممارستها. بل إن بعض مدونات الأخلاقيات المهنية أصبحت مادة قانونية يترتب عن خرقها جزاءات قانونية.
وتُعَرَّفُ الأخلاق المهنية في الوقت الحالي بكونها : “مجموع القواعد والواجبات التي تنظم اعتماداً على الأخلاق التزامات المنتمين لمهنة من المهن، أو الممارسين لوظيفة من الوظائف في المجتمع. سواء كانت مقررة بمقتضى القانون أو بدونه”. ومن المهن التي أصبحت تتوفر على مدونات أخلاقية، مهنة القضاء. حيث أصبحت لها مدونات للأخلاق ببعض الدول، كما وُضِعَتْ لها مبادئ بنْغالور للسلوك القضائي (2006) من طرف منظمة الأمم المتحدة.
وأما في بلادنا فقد أصبحت مدونة الأخلاقيات القضائية مفروضة بمقتضى القانون. حيث نصت المادة 106 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، أن المجلس “يضع بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة مدونة للأخلاقيات القضائية، تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية …”.
وقد حددت المادة المذكورة أهداف مدونة الأخلاقيات في الحفاظ على استقلالية القضاة ونزاهتهم وتجردهم من جهة. وفي صيانة هبة القضاء، والتقيد بأخلاقه النبيلة والالتزام بحسن تطبيق قواعد سير العدالة من جهة ثانية. وحماية حقوق المتقاضين وحسن معاملتهم من جهة ثالثة. بالإضافة إلى استمرارية مرفق القضاء وضمان حسن سيره من جهة رابعة.
كما قررت نفس المادة (106 من القانون التنظيمي للمجلس)، وضع لجنة خاصة بالأخلاقيات بالمجلس، تتولى تتبع ومراقبة التزام القضاة بالمدونة المذكورة.
وبتاريخ 8 مارس 2021 نُشِرَتْ مدونة الأخلاقيات القضائية، بالجريدة الرسمية للمملكة. وقد نصت ديباجتها على الأسس التي استُحْضِرَت خلال وضع المدونة ويتعلق الأمر ب :
- مساعدة القضاة على معرفةٍ أحْسَنَ للواجبات الأخلاقية لمهنتهم. وتوفير إطار مرجعي يوجه سلوكهم الأخلاقي، بما يتلاءم مع رسالة القضاء؛
- استحضار إكراهات العولمة التي تواجه بها مهمة إنتاج العدالة. ولاسيما ما تطرحه وسائل الاتصال الحديثة والتكنولوجية وشبكات التواصل الاجتماعي من صعوبات؛
- استحضار خصوصيات النظام القضائي بالمغرب، واعتماد الدستور والتوجيهات الملكية والقانون التنظيمي للمجلس والنظام الأساسي للقضاة، والالتزامات الدولية للمملكة، في إعداد المدونة؛
- فتح الباب في مرحلة الإعداد، “للجمعيات المهنية للقضاة للإدلاء بتقارير موضوعاتية حول أخلاقيات المهنة”؛
- دعم لجنة الأخلاقيات بمؤسسات جهوية تتمثل في المسؤولين القضائيين لمحاكم الاستئناف، الذين أَسْندت لهم المدونة مهمة مستشاري الأخلاقيات.
ومن جهة أخرى فقد عدَّدَتِ المدونة تسعة مبادئ أساسية اعتبرتها مبادئ أخلاقية تقوم عليها مهنة القضاء، ويتعين على القضاة الالتزام بها، وهي : - الاستقلال في ممارسة مهنة القضاء، وعدم الخضوع لأي سلطة سوى سلطة الضمير والتطبيق العادل للقانون والالتزام بقواعد العدالة والإنصاف؛
- الحياد والتجرد في أداء الوظائف القضائية، دون تحيز
أو تحامل أو محاباة تجاه أي طرف، والتجرد من القناعات الإيديولوجية المختلفة؛ - المساواة بين الأطراف دون تمييز كيفما كان أساسه؛
- النزاهة، التي تقتضي الابتعاد عن كل سلوك مشين، ورفض الإغراءات؛
- الكفاءة والاجتهاد، الأمر الذي يَقتضي مواكبة المستجدات القانونية والاجتهاد القضائي والممارسات القضائية الفضلى، والحرص على ضمان جودة الأحكام وإعطاء العناية للقضايا التي يكلف بها القاضي؛
- الجرأة والشجاعة الأدبية، التي تتمثل في القدرة على التعبير عن القناعات القانونية والدفاع عنها بشجاعة. والقدرة على مقاومة الحرج والتردد في اتخاذ القرار الملائم المستمد من الحق والقانون؛
- التحفظ، ويقصد به حرصُ القاضي على الاتزان والرصانة في سلوكه وتعبيره، والعزوفُ عن إبداء آراء
أو مواقف يكون من شأنها المساس بثقة المتقاضي في استقلال وحياد القضاء؛ - اللباقة وحسن المظهر. ويراد بها – التصرف السليم للقاضي، الذي يجسد التزامَهُ بالقيم الإنسانية وآداب التعامل والتحلي بالخصال الحميدة، وإظهار الاحترام المتبادل مع محيطه والحرص على الظهور بمظهر لائق؛
- التضامن، ويراد به وحدة الجسم القضائي وتضامن المنتمين إليه في تبادل النصح عند الإخلال بالمبادئ والقيم القضائية، والامتناع عن المساس باستمرارية المرفق القضائي.
وأخيراً، فإن المدونة قد ذكَّرت بمقتضيات المادة 52 من القانون التنظيمي للمجلس المتعلقة بلجنة الأخلاقيات ودعم استقلال القضاء، وحددت مهامها في تلقي الإحالات التي يرفعها القضاة للمجلس بشأن محاولة التأثير. وعينت الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين لديها بمثابة مستشارين للأخلاقيات بالدوائر الاستئنافية، يناط بهم تعميم المدونة وحث القضاة على الالتزام بمقتضياتها، ومساعدتهم بالنصح والتوجيه للوفاء بالتزاماتهم الأخلاقية. بالإضافة إلى إبلاغ لجنة الأخلاقيات بالمجلس بالخروقات الأخلاقية، وتقديم المقترحات والتوصيات المتعلقة بحسن تطبيق المدونة.
حضرات السيدات والسادة القاضيات والقضاة؛
ها هي مدونة الأخلاقيات قد أصبحت أمراً ملموساً بين أيديكم، وتضمنت تطبيقات عملية واضحة من شأنها رفع اللبس عَن التصرفات الماسة بشرف المهنة ووقارها. فأرجو أن تعملوا جميعاً على الالتزام بمقتضياتها بإرادتكم وعزيمتكم، وأن تعملوا على تقديم النصح لزملائكم وتحسيسهم بأهمية الوفاء للأخلاقيات القضائية. كما أدعو السادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين لديها – باعتبارهم مستشاري الأخلاقيات – إلى تنظيم حلقات للدراسة والتكوين بشأن مدونة الأخلاقيات. وإلى الاضطلاع بدورهم كمستشاري الأخلاقيات القضائية بدوائر نفوذ محاكم الاستئناف، وذلك لما سيترتب عن ذلك من أثر إيجابي على الأداء القضائي. إذ أن كل مجهود في سبيل تحقيق المبادئ الأساسية الناظمة لمهنة القضاء، مثل الاستقلال والحياد والتجرد والنزاهة والاستقامة، والعناية بالملفات، لابد أن يَترتب عنه تحسن سمعة القضاء وزيادة منسوب الثقة في أحكامه.
حضرات السيدات والسادة؛
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
(أحمد شوقي)
شكراً لكم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته