محمد إنفي
يقدم لنا موقع “ويكيبيديا”، مشكورا، المعلومات التالية عن الوزير السابق، السيد محمد نجيب بوليف، المزداد بمدينة طنجة سنة 1964: “أستاذ الاقتصاد بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة، خبير اقتصادي لدى عدة مؤسسات مالية دولية، من بينها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وجمعية الدول الفرنكوفونية، والمنظمة العالمية لمحاربة الفساد”، بالإضافة إلى معلومات أخرى تتعلق بانتمائه السياسي (حزب العدالة والتنمية) ومهامه التمثيلية (نائب برلماني لولايتين) والرسمية (وزير منتدب لدى رئيس الحكومة مكلف بالشؤون العامة والحكامة في حكومة بنكيران). ونعلم أنه كان، أيضا، ضمن النسخة الأولى لحكومة العثماني (كاتب الدولة المكلف بالنقل).
لن أتحدث عن انطباعي عنه كوزير؛ وإن كنت أعتقد أن الكثير من الناس يقاسمونني الانطباع بأنه كان وزيرا فاشلا بحق، مثله مثل العديد من زملائه في الحزب الذين تولوا مهام تمثيلية أو مهام رسمية. وخرجته الأخيرة حول القروض البنكية لتمويل مقاولات الشباب، جعلتني أتأكد من محدودية مؤهلاته الفكرية وتواضع مستواه الثقافي (ثقافة عامة وثقافة سياسية)، وإن كان يتوفر على شواهد عليا في تخصصه، أهلته بأن يكون خبيرا اقتصاديا، حسب “ويكيبيديا”، طبعا، لدى مؤسسات دولية.
إن “فتوى” تحريم القروض البنكية لتمويل مقاولات الشباب، تضعه في تناقض صارخ، من جهة، مع “الخبرة” التي يقدمها للمؤسسات المالية الدولية، ومن بينها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي اللذان من وظائفهما الأساسية منح القروض للدول وللمؤسسات التابعة لها ؛ ومن جهة أخرى، في تناقض مع وضعه كوزير سابق في حكومتين أغرقتا البلاد في الديون الخارجية، لدرجة أننا أصبحنا نخاف من أن تدخل بلادنا، لا قدر الله، تجربة أخرى من التقويم الهيكلي (الأولى كانت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي).
ولو صدرت هذه الفتوى عن شيوخ الفتنة (والبعض منهم لم يتأخر، بالفعل، عن ذلك؛ لكن الملاحظ أن وقعها، إعلاميا، كان أقل من وقع فتوى بوليف)،لاعتبرنا الأمر عاديا، من أناس ألفوا عدم احترام المؤسسات؛ لكن أن تصدر عن مسؤول حكومي سابق وعن خبير اقتصادي، فهذا أمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب. وردود الفعل القوية التي أعقبت هذه “الفتوى الخائبة”، كما سماها إسماعيل الحلوتي (جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 26 فبرير 2020)، والتي تم اعتبارها من طرف رواد التواصل الاجتماعي بأنها تستهدف المبادرة الملكية، لتؤكد، بالملموس، فداحة وفظاعة التناقض الذي وقع فيه المسؤول الحكومي السابق، وتدل دلالة واضحة على نوعية النخبة التي أنتجتها، من جهة، الإصلاحات التي أقدمت عليها الدولة في مجال التعليم خلال مطلع الثمانينيات من القرن الماضي (بل وحتى قبل ذلك، على مستوى الجامعة، مثلا)، وأنتجها، من جهة أخرى، الإفساد السياسي الإرادي الذي اعتمدته الدولة في تجربتنا الديمقراطية منذ منتصف السبعينيات من نفس القرن.
.
والغريب في الأمر، أن بوليف خالف حتى شيخه في الجماعة، الرئيس الأسبق لحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، أحمد الريسوني. ففي الوقت الذي اعتبر هذا الأخير أن القروض التي تمنح للشباب بفائدة منخفضة النسبة، ليست قروضا ربوية، يرى بوليف، على قاعدة “ما أسكر كثيره، فقليله حرام”، أن “الربا قليله وكثيره له نفس الحكم، ولو كان الحق سبحانه يريد أن يفرق بينهما لما غفل عن ذلك…عز وجل”، مضيفا “والأبناك التشاركية المغربية والحمد لله موجودة لتقوم بما يلزم”.
وقبل مواصلة الحديث عن فتواه حول الربا، نتساءل عن خلفيات هذا الترويج للأبناك التشاركية (أو الإسلامية، كما تسمى في المشرق العربي) التي يعتبرها موجودة لتقوم بما يلزم. لنسأل بوليف، أولا، عن السند الشرعي، من القرآن والسنة، الذي تقوم عليه هذه البنوك التشاركية؟ ولنسأله، بعد ذلك، وهو المتخصص في الاقتصاد، عن تاريخ نشأة البنوك، وكيف وأين نشأت، وعلى أية “عقيدة” تقوم؟ فهل هناك بنوك مسيحية وأخرى يهودية أو بوذية أو مجوسية…حتى نتحدث عن بنوك إسلامية أو تشاركية بالمفهوم المغربي؟ ثم لنسأله عن تاريخ نشأة ما يسمى بالبنوك الإسلامية؟ وفي أي نوع من الفقه، يمكن أن نضعها؟ أفي فقه الواقع أم في فقه النصوص؟ ثم لما ذا انتظر العالم الإسلامي السبعينيات من القرن الماضي حتى يتأسس في دبي أول مصرف إسلامي، بينما البنوك المسماة ربوية عرفت اكتمال تطورها في القرن السادس عشر؟
وبالنظر لتحمسه للبنوك التشاركية، نتساءل إن كان هناك ما يبرر زعمه بأن هذا النوع الجديد من البنوك المغربية قادر على القيام بما يلزم؟ فهل نظام هذه المؤسسات البنكية يسمح بالاشتراك في مشروع من قبيل “انطلاقة”، الذي يرمي إلى دعم وتمويل مقاولات الشباب بفائدة لا تتعدى نسبتها 2 في المائة؟ وهل هذه الأبناك التشاركية الحديثة العهد بالمملكة المغربية، اكتسبت ما يكفي من التجربة والخبرة لتنخرط في مشروع ضخم من هذا النوع؟ وهل تقبل هذه البنوك بمثل هذه النسبة المنخفضة؟ وهل…؟ وهل…؟
أما عن فتوى “الشيخ” بوليف، التي تحرم القروض، حتى وإن كانت منخفضة الفائدة ليستفيد منها الشباب الحاملون للمشاريع الاستثمارية (مقاولات متوسطة أو صغيرة أو صغيرة جدا) لإحداث حوالي 27 ألف مقاولة وتشغيل حوالي مليون عاطل من كل الفئات، فإنها، باختصار، تضعه، ليس فقط في موقع أصحاب مقولة “لا اجتهاد مع النص”؛ أي في صف دعاة التحجر والجمود والانغلاق والخمول الفكري والعقدي؛ بل، وأيضا، في صف دعاة الفتنة، من خلال تشويشه على برنامج طموح للدولة، أطلقه ملك البلاد لدعم وتمويل مقاولات الشباب للتخفيف من آثار البطالة التي استفحلت في عهد حكومتي العدالة والتنمية.
في الواقع، فتوى بوليف التي تحرم القروض البنكية الممنوحة للشباب بنسبة جد منخفضة من أجل تمويل مقاولاتهم، تنزل به إلى الحضيض فكرا وممارسة لأنها موغلة في السطحية وفي التعالي عن الواقع. وإني أشفق عليه من هذا الانحدار الفكري والانغلاق الثقافي. لذا، ألتمس منه، إن تواضع (وإن كنت أشك في الأمر)، أن يتقبل هدية متواضعة من زميل في التعليم العالي- ليس متخصصا لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم الاقتصادية- عبارة عن مساهمة شخصية، بذل فيها مجهود محترم، تحاول مقاربة موضوع الربا من خلال جوانبه المختلفة، انطلاقا من النص واستحضارا للواقع. عنوان هذه المساهمة، هو: “الربا بين فقه الواقع وفقه النص: فصل المقال فيما بين وزر الدائن والمدين من انفصال” (جريدة “الاتحاد الاشتراكي” يوم 15-07-2013)؛ ولعل هذا المقال قد يجعله يعي مستواه الفكري والثقافي جيدا (أقول الفكري والثقافي، وليس التعليمي أو العلمي التخصصي).
ودون الخوض من جديد في الموضوع من منظور فقه الواقع وفقه النص، أسأل “الشيخ” بوليف: عمن يقع وزر الربا في مشروع “انطلاقة”؟ كما أسأله إن كان قد فكر يوما في معنى أكل الربا الوارد في القرآن الكريم؟ وهل يعلم بأن الربا الذي لا خلاف في تحريمه، هو ربا النسيئة (ربا الجاهلية)؛ بينما الاختلاف حول ربا الفضل أو ربا البيوع، قائم بين العلماء؛ بل ويمتد إلى عهد الصحابة، رضوان الله عليهم؟
شخصيا، لا أجد من وصف يليق بفتوى بوليف، في الظروف التي نحن فيها وفي الرهانات المطروحة على بلادنا، سوى كونها بليدة.